بسم
الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، صل اللهم و سلم على نبينا محمد
وبعد :
نعيش اليوم
زمن ظهور القلم، في كل المواضيع الصاعد و النازل، و منها البحث في العلوم الشرعية
و اللغوية و التاريخية، بعد أن أصبحت العلوم تطلب في الجامعات، و كان الحصول على
الشهادة مقرونا بالبحث لا بنقطة الامتحان، و هذا منهج في التقييم صحيح، لكن ما هو
البحث الذي نتكلم عنه
البحث : موضوع و
استدلال و صورة :
شرط الأول : أن
يضيف فائدة لها قيمة، و كثير من الدراسات في حقيقتها :
فهارس :
إجماعات فلان،
أصوله، قواعده، اختياراته، منهجه، يُذكر الأصل و القاعدة و الاختيار ثم يُشرح و
يُدرس بإعادة كتابة ما هو معروف مشهور في كتب ذلك الفن، و الغالب على "فلان"
أنه من المتأخرين، و أنه أخذ فقهه و قواعده و أصوله و منهجه مما هو مقرر في كتب
مذهبه أو الكتب المقتصر عليها في ذلك الفن – في كل فن تجدهم يقتصرون على كتب هي
مختصرات أو شروح لها[1] و يهملون
أمهات ذلك الفن التي فقد منها ما فقد بسبب قلّة العناية بها، و كم من كتاب جنى
عليه اختصاره، أقبل الناس على المختصر و تركوا الأصل، – دون نظر و تحقيق أو
استقراء و تتبع، أي ليس له ما يميزه حتى يُفرد بالدراسة، و قد يكون له كتاب مفرد
في الموضوع المبحوث، أو له مقدمة تبين منهجه في كتابه
أو أحكام
موزعة على أبواب الفقه يجمعها أصل مشترك – كـ : "الممسوحات" –،
فتُجمع تلك الأحكام المتفرقة، ثم يعاد دراستها بما هو مدون في كتب الفقه، دون
الخروج بأصل، قاعدة فقهية جامعة تغني عن الحفظ، و ينزّل عليها ما لا نصّ فيه، و
هذا هو فائدة الجمع، مع أن المسائل الاجتهادية الخلافية لا معنى للبحث فيها لأنها
ستبقى اجتهادية خلافية
جزئيات :
تُأخذ جزئية
قصد تجليتها، ثم يعاد كتابة مسائل الباب، لأنه لا يمكن فهم المسألة إذا جرّدت عن
باقي مسائل الباب، نفس قصة الحواشي و الشروح مع المختصرات، الاختصار لأجل الحفظ، و
الحواشي و الشروح لفهم ما يحفظ، فيجد الطالب نفسه مضطرا لحفظ المختصر و حاشيته أو
شرحه، و أيضا الاقتصار على الجزئية لا يسمح ببلوغ النصاب المطلوب في عدد صفحات
البحث
و شرط الثاني :
التزام الحجة
و الدليل، أي أن يكون الدليل متبوعا و الحكم تابعا، و البحث قبل الحكم لا بعده، و
هذا عزيز لـ :
1.
عدم الاهتمام
في التعليم الأكاديمي بـ "الإيمانيات" و
"تحبيب العلم لطلابه" و "الأخلاق" التي يجب أن يتحلى بها الباحث، بل المسلم،
فهمّ الباحث الانتصار لهواه الذي تربى عليه، أو هوى أستاذه الذي رباه على التعصب
له
2.
الضعف العلمي
في مادة التخصص، بسبب :
أ-
ضعف
" الأستاذ " و عدم تمكنه من مادته
ب-
و
ضعف الهمة و الرغبة عند الطالـب
فهمه الحصول
على الشهادة قصد الاسترزاق و المباهاة بها
ت-
إضافة
إلى مناهج التدريس العقيمة
*الاعتماد على الإلقاء
و حل رموز المختصرات
*فصلُ الفروع عن الأصول و العكس
في الفقه :
يدرس الأحكام مجردة عن أصولها و عللها و مقاصدها
في أصول الفقه :
يدرس أصول الفقه بعيدا عن الأحكام
في علوم الحديث :
يدرس القواعد
دراسة عقلية تجوزية بعيدا عن أحكام النقاد الجزئية
و بعيدا عن
التطبيق : التخريج، و جمع الطرق، و ترتيبها حسب مخارجها، و ما يعد مخرجا واحدا و
ما يعد مخرجا آخر ، و النظر في اتفاقها و اختلافها ثم الحكم على الحديث إلا نافلة
*الاشتغال بأصول لا فروع لها : مطلقا
*الاشتغال بمسائل أجنبية عن العلم الذي أقحمت فيه
لأن لكل علم
موضوعه و فائدته، و هذا يرجع إلى التشويش على المتعلم كما في الجمع بين العلوم في
وقت واحد
و تكلم الشاطبي إبراهيم
بن موسى ( ت :
790 ) في
أول "الموافقات" في الأصول التي لا فروع لها، "فصل الأصول عن الفروع"
قال : المقدمة
الرابعة : كل مسألة مرسومة
في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك
فوضعها في أصول الفقه عارية.
و الذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص
بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك،
فليس بأصل له...، و إنما اللازم أن كل أصل يضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه، فليس
بأصل له، و على هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون
وأدخلوها فيها، كمسألة ابتداء الوضع، و مسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا ؟، و
مسألة أمر المعدوم، و مسألة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع أم لا، و مسألة لا
تكليف إلا بفعل .اهـ[2]
و لهذا من شروط التعلم معرفة حدود العلم فلا
يزيد في مسائله و لا ينقص منها
قال الأنصاري
أبو يحيى زكريا بن محمد ( ت : 926 ) : أن يعلم أن لكل
علم حدا، فلا يتجاوزه و لا ينقص عنه . اهـ[3]
و يأتي في الجمع بين أكثر من علم في
التعلم
و تكلم عبد الحميد بن باديس ( ت :
1359 ) : في الاقتصار على شرح ألفاظ المختصرات، و توجيهها
و دفع الاعتراضات عنها و بيان الأحكام، دون تعرض إلى أدلتها و كيفية استفادتها و عللها
و مقاصدها التي هي أصل الاجتهاد، "فصل الفروع عن
الأصول"
قال : و بيَّن القرآن أصول الأحكام، و أمهات مسائل الحلال و الحرام،
و وجوه النظر و الاعتبار مع بيان حِكم الأحكام و فوائدها في الصالح الخاص و
العام، و اقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجرّدة بلا نظر، جافّة بلا حكمة، وراء
أسوار من الألفاظ المختصرة تفنى الأعمار قبل الوصول إليها .اهـ[4]
و من الكتب التي
قررها على طلابه : كتاب الشريف التلمساني "مفتاح الوصول إلى بناء
الفروع على الأصول" و أملى مختصرا في أصول الفقه، اقتصر فيه على
المهم مع وضوح العبارة و سهولتها، و هو مطبوع
ث-
الفصل
في التخصص بين علوم الآلة و العلوم المقصودة منها
كالتخصص في
"أصول الفقه" أو في "الفقه" و هما متلازمان، لهذا تجد من الأصوليين
من ليس بفقيه، و من الفقهاء من ليس بأصولي
ج-
الجمع
بين العلوم في وقت واحد
رغم قصر زمن
التعلم بالجامعة – أربع السنوات – مع ما يتخللها من عطل و امتحانات، فإن المواد
المدروسة كثيرة
قال ابن خلدون أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ( ت : 808 )
: و من المذاهب الجميلة و الطّرق الواجبة في التّعليم أن
لا يخلط على المتعلّم علمان معا، فإنّه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من
تقسيم البال، و انصرافه عن كلّ واحد منهما إلى تفهّم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان
و يعود منهما بالخيبة، و إذا تفرّغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربّما
كان ذلك أجدر لتحصيله. اهـ[5]
قال الأنصاري أبو يحيى زكريا بن محمد ( ت : 926 ) : ألا
يدخل علما في علم آخر – لا في تعلم و لا في مناظرة – لان ذلك يشوش الذهن . اهـ[6]
و منه إدخال
علوم كثيرة في علم واحد كما هو الحال في "أصول
الفقه"
قال ابن رشد الحفيد أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي ( ت : 595 )
:
و أبو
حامد [ الغزالي محمد بن محمد ( ت : 505 ) ] قدّم قبل ذلك مقدمة منطقية زعم أنه أداه إلى القول في
ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة في أمور منطقية، كنظرهم في حد العلم و غير ذلك.
و نحن فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن
من رام أن
يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم و لا واحدا منها .اهـ[7]
ح-
إضافة
إلى التخصص في فن من الفنون قبل الإلمام بجميع الفنون المتعلقة بذلك العلم
أي أن يكون
للباحث قدر من المعرفة بباقي الفنون، بسبب تداخل الفنون، و كثير من الطلبة السنةُ
الأولى في الجامعة هي السنة الأولى في العلم، فلا بدّ من اشتراط نصيب من العلم و
المعرفة للالتحاق بالجامعة
و شرط الأخير – و هو فرع، المقصود منه تسهيل الرجوع إلى الكتاب و الاستفادة منه – :
أ-
الاختصار و
الاقتصار على ما يفيد الموضوع
ب- و
نسبة الأقوال و المعاني إلى أصحابها
ت- و
حسن العرض بالجمع بين المتفق و ترتيبه
ث- و
فهرسة ما في فهرسته فائدة
أما التوسع في
العرض على حساب الموضوع و الاستدلال بـ : تراجم الأعلام بما فيهم المشهورون، و
التعريفات التي لا تفيد البحث، و فهارس لا ينتفع بها أحد، و باب تمهيدي – إضافة
إلى المقدمة – كأن الباحث يخاطب أمّيّـين، فما هو إلا غطاء على الضعف العلمي
لخريجي الجامعات – كما هو الحال في القرون المتأخرة : المختصرات و شروحها و
حواشيها –، و من حضر مناقشات الدراسات الجامعية وجدها تدور على شكليات لا تفيد
البحث، لكنها عند أصحابها الميزان في قبول البحث و ردّه، لا يشفع لصاحبه قيمةُ
موضوعه و صحةُ استدلاله إن لم يلتزمها .
و لا غرابة أن
يقال إن التعليم الأكاديمي جنى على العلوم الشرعية، فقد أُخبرنا بظهور علماء السوء
– كما هو الحال عند اليهود – و تصدر الرويبضة – كما هو الحال عند النصارى– و فشوّ
القلم – كما هو حال هذه الأمة في هذا الزمان –، و إسهام التعليم الأكاديمي في هذا
لا يخفى.
و لا يخفى ما
في الباحثين الأكادميين من مخلصين للعلم – وهم الذين اتخذوا العلم طريقا و سببا
للنجاة من النار و الفوز بالجنة – أفادوا الأمة ببحوث و دراسات، و بعنايتهم بكتب
التراث، و هم أوّل المتضررين بهذه الحقيقة للتعليم الأكاديمي
قال بوعلام محمد بجاوي : فلا
بدّ من الرجوع إلى الأصل في تقيـيم الرجال، و هو أعمالهم التي حصلوا بها على
الألقاب لا بالألقاب، فتجد بعض "الملقبين" يواري بحثه عن الأنظار كما
يواري سوءته أو أشد، و إذا كان له حياء وارى نفسه أيضا، و ما يقال في الألقاب
الأكادمية يقال في "الإجازات"، و هذا كلام عام في جميع العلوم الشرعية و
العمرانية، و لا سبيل غير هذا السبيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق