الخميس، 17 مايو 2018

بحوثنا الأكاديمية

بحوثنا الأكاديمية

بحوثنا الأكاديمية

بوعلام محمد بجاوي

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، صل اللهم و سلم على نبينا محمد
وبعد :
نعيش اليوم زمن ظهور القلم، في كل المواضيع الصاعد و النازل، و منها البحث في العلوم الشرعية و اللغوية و التاريخية، بعد أن أصبحت العلوم تطلب في الجامعات، و كان الحصول على الشهادة مقرونا بالبحث لا بنقطة الامتحان، و هذا منهج في التقييم صحيح، لكن ما هو البحث الذي نتكلم عنه 
البحث : موضوع و استدلال و صورة :
شرط الأول : أن يضيف فائدة لها قيمة، و كثير من الدراسات في حقيقتها :
فهارس :
إجماعات فلان، أصوله، قواعده، اختياراته، منهجه، يُذكر الأصل و القاعدة و الاختيار ثم يُشرح و يُدرس بإعادة كتابة ما هو معروف مشهور في كتب ذلك الفن، و الغالب على "فلان" أنه من المتأخرين، و أنه أخذ فقهه و قواعده و أصوله و منهجه مما هو مقرر في كتب مذهبه أو الكتب المقتصر عليها في ذلك الفن – في كل فن تجدهم يقتصرون على كتب هي مختصرات أو شروح لها[1] و يهملون أمهات ذلك الفن التي فقد منها ما فقد بسبب قلّة العناية بها، و كم من كتاب جنى عليه اختصاره، أقبل الناس على المختصر و تركوا الأصل، – دون نظر و تحقيق أو استقراء و تتبع، أي ليس له ما يميزه حتى يُفرد بالدراسة، و قد يكون له كتاب مفرد في الموضوع المبحوث، أو له مقدمة تبين منهجه في كتابه 
أو أحكام موزعة على أبواب الفقه يجمعها أصل مشترك – كـ : "الممسوحات" –، فتُجمع تلك الأحكام المتفرقة، ثم يعاد دراستها بما هو مدون في كتب الفقه، دون الخروج بأصل، قاعدة فقهية جامعة تغني عن الحفظ، و ينزّل عليها ما لا نصّ فيه، و هذا هو فائدة الجمع، مع أن المسائل الاجتهادية الخلافية لا معنى للبحث فيها لأنها ستبقى اجتهادية خلافية 
جزئيات :
تُأخذ جزئية قصد تجليتها، ثم يعاد كتابة مسائل الباب، لأنه لا يمكن فهم المسألة إذا جرّدت عن باقي مسائل الباب، نفس قصة الحواشي و الشروح مع المختصرات، الاختصار لأجل الحفظ، و الحواشي و الشروح لفهم ما يحفظ، فيجد الطالب نفسه مضطرا لحفظ المختصر و حاشيته أو شرحه، و أيضا الاقتصار على الجزئية لا يسمح ببلوغ النصاب المطلوب في عدد صفحات البحث 
و شرط الثاني :
التزام الحجة و الدليل، أي أن يكون الدليل متبوعا و الحكم تابعا، و البحث قبل الحكم لا بعده، و هذا عزيز لـ :
1.    عدم الاهتمام في التعليم الأكاديمي بـ "الإيمانيات" و "تحبيب العلم لطلابه" و "الأخلاق" التي يجب أن يتحلى بها الباحث، بل المسلم، فهمّ الباحث الانتصار لهواه الذي تربى عليه، أو هوى أستاذه الذي رباه على التعصب له
2.    الضعف العلمي في مادة التخصص، بسبب :
         أ‌-        ضعف " الأستاذ " و عدم تمكنه من مادته
      ب‌-      و ضعف الهمة و الرغبة  عند الطالـب
فهمه الحصول على الشهادة قصد الاسترزاق و المباهاة بها
      ت‌-      إضافة إلى مناهج التدريس العقيمة
*الاعتماد على الإلقاء و حل رموز المختصرات
*فصلُ الفروع عن الأصول و العكس
في الفقه : يدرس الأحكام مجردة عن أصولها و عللها و مقاصدها
في أصول الفقه : يدرس أصول الفقه بعيدا عن الأحكام 
في علوم الحديث :
يدرس القواعد دراسة عقلية تجوزية بعيدا عن أحكام النقاد الجزئية
و بعيدا عن التطبيق : التخريج، و جمع الطرق، و ترتيبها حسب مخارجها، و ما يعد مخرجا واحدا و ما يعد مخرجا آخر ، و النظر في اتفاقها و اختلافها ثم الحكم على الحديث إلا نافلة
*الاشتغال بأصول لا فروع لها : مطلقا
*الاشتغال بمسائل أجنبية عن العلم الذي أقحمت فيه
لأن لكل علم موضوعه و فائدته، و هذا يرجع إلى التشويش على المتعلم كما في الجمع بين العلوم في وقت واحد 
و تكلم الشاطبي إبراهيم بن موسى ( ت : 790 ) في أول "الموافقات" في الأصول التي لا فروع لها، "فصل الأصول عن الفروع"
قال : المقدمة الرابعة : كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية.
و الذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك، فليس بأصل له...، و إنما اللازم أن كل أصل يضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه، فليس بأصل له، و على هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها، كمسألة ابتداء الوضع، و مسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا ؟، و مسألة أمر المعدوم، و مسألة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع أم لا، و مسألة لا تكليف إلا بفعل .اهـ[2]
و لهذا من شروط التعلم معرفة حدود العلم فلا يزيد في مسائله و لا ينقص منها
قال الأنصاري أبو يحيى زكريا بن محمد ( ت : 926 ) : أن يعلم أن لكل علم حدا، فلا يتجاوزه و لا ينقص عنه . اهـ[3]
و يأتي في الجمع بين أكثر من علم في التعلم 
و تكلم عبد الحميد بن باديس ( ت : 1359 ) : في الاقتصار على شرح ألفاظ المختصرات، و توجيهها و دفع الاعتراضات عنها و بيان الأحكام، دون تعرض إلى أدلتها و كيفية استفادتها و عللها و مقاصدها التي هي أصل الاجتهاد، "فصل الفروع عن الأصول"   
قال : و بيَّن القرآن أصول الأحكام، و أمهات مسائل الحلال و الحرام، و وجوه النظر و الاعتبار مع بيان حِكم الأحكام و فوائدها في الصالح الخاص و العام، و اقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجرّدة بلا نظر، جافّة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة تفنى الأعمار قبل الوصول إليها .اهـ[4]
و من الكتب التي قررها على طلابه : كتاب الشريف التلمساني "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول" و أملى مختصرا في أصول الفقه، اقتصر فيه على المهم مع وضوح العبارة و سهولتها، و هو مطبوع
      ث‌-      الفصل في التخصص بين علوم الآلة و العلوم المقصودة منها
كالتخصص في "أصول الفقه" أو في "الفقه" و هما متلازمان، لهذا تجد من الأصوليين من ليس بفقيه، و من الفقهاء من ليس بأصولي
       ج‌-      الجمع بين العلوم في وقت واحد
رغم قصر زمن التعلم بالجامعة – أربع السنوات – مع ما يتخللها من عطل و امتحانات، فإن المواد المدروسة كثيرة
قال ابن خلدون أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ( ت : 808 ) : و من المذاهب الجميلة و الطّرق الواجبة في التّعليم أن لا يخلط على المتعلّم علمان معا، فإنّه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال، و انصرافه عن كلّ واحد منهما إلى تفهّم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة، و إذا تفرّغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربّما كان ذلك أجدر لتحصيله. اهـ[5]
قال الأنصاري أبو يحيى زكريا بن محمد ( ت : 926 ) : ألا يدخل علما في علم آخر – لا في تعلم و لا في مناظرة – لان ذلك يشوش الذهن . اهـ[6]
و منه إدخال علوم كثيرة في علم واحد كما هو الحال في "أصول الفقه"
قال ابن رشد الحفيد أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي ( ت : 595 ) : و أبو حامد [ الغزالي محمد بن محمد ( ت : 505 ) ] قدّم قبل ذلك مقدمة منطقية زعم أنه أداه إلى القول في ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة في أمور منطقية، كنظرهم في حد العلم و غير ذلك. و نحن فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم و لا واحدا منها .اهـ[7]
       ح‌-      إضافة إلى التخصص في فن من الفنون قبل الإلمام بجميع الفنون المتعلقة بذلك العلم
أي أن يكون للباحث قدر من المعرفة بباقي الفنون، بسبب تداخل الفنون، و كثير من الطلبة السنةُ الأولى في الجامعة هي السنة الأولى في العلم، فلا بدّ من اشتراط نصيب من العلم و المعرفة للالتحاق بالجامعة  
و شرط الأخير – و هو فرع، المقصود منه تسهيل الرجوع إلى الكتاب و الاستفادة منه – :
         أ‌-        الاختصار و الاقتصار على ما يفيد الموضوع
      ب‌-      و نسبة الأقوال و المعاني إلى أصحابها
      ت‌-      و حسن العرض بالجمع بين المتفق و ترتيبه
      ث‌-      و فهرسة ما في فهرسته فائدة
أما التوسع في العرض على حساب الموضوع و الاستدلال بـ : تراجم الأعلام بما فيهم المشهورون، و التعريفات التي لا تفيد البحث، و فهارس لا ينتفع بها أحد، و باب تمهيدي – إضافة إلى المقدمة – كأن الباحث يخاطب أمّيّـين، فما هو إلا غطاء على الضعف العلمي لخريجي الجامعات – كما هو الحال في القرون المتأخرة : المختصرات و شروحها و حواشيها –، و من حضر مناقشات الدراسات الجامعية وجدها تدور على شكليات لا تفيد البحث، لكنها عند أصحابها الميزان في قبول البحث و ردّه، لا يشفع لصاحبه قيمةُ موضوعه و صحةُ استدلاله إن لم يلتزمها .
و لا غرابة أن يقال إن التعليم الأكاديمي جنى على العلوم الشرعية، فقد أُخبرنا بظهور علماء السوء – كما هو الحال عند اليهود – و تصدر الرويبضة – كما هو الحال عند النصارى– و فشوّ القلم – كما هو حال هذه الأمة في هذا الزمان –، و إسهام التعليم الأكاديمي في هذا لا يخفى.
و لا يخفى ما في الباحثين الأكادميين من مخلصين للعلم – وهم الذين اتخذوا العلم طريقا و سببا للنجاة من النار و الفوز بالجنة – أفادوا الأمة ببحوث و دراسات، و بعنايتهم بكتب التراث، و هم أوّل المتضررين بهذه الحقيقة للتعليم الأكاديمي
قال بوعلام محمد بجاوي : فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل في تقيـيم الرجال، و هو أعمالهم التي حصلوا بها على الألقاب لا بالألقاب، فتجد بعض "الملقبين" يواري بحثه عن الأنظار كما يواري سوءته أو أشد، و إذا كان له حياء وارى نفسه أيضا، و ما يقال في الألقاب الأكادمية يقال في "الإجازات"، و هذا كلام عام في جميع العلوم الشرعية و العمرانية، و لا سبيل غير هذا السبيل.


[1] تاريخ ابن خلدون ( المقدمة ) 1 / 733 - 734
[2] الموافقات 1 / 37 – 38
[3] اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم 6
[4] آثار ابن باديس 1 / 407 – 408
[5] مقدمة ابن خلدون 1 / 736
[6] اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم 6
[7] الضروري في أصول الفقه ( مختصر المستصفى ) 37 – 38

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق