الأربعاء، 3 مارس 2021

القرآن والعلم الحديث : "الأرض" 07

القرآن والعلم الحديث 07

القرآن والعلم الحديث : "الأرض" 07

بوعلام محمد بجاوي

لا خلاف في هذا السرد التاريخي، الخلافُ في الحكم، فأتباع الأشعري و الماتريدي يعتقدون أن الأشعري و الماتريدي على عقيدة السلف – بل ما عليه الأشعري و الماتريدي هو عقيدة السلف –، و إنما زاداها بيانا ووضوحا و استدلاّ لها بالحجج العقلية – كما سبق في كلام الشهرستاني –، و المقام لا يتسع لبيانه، والذي يعنينا أصل كلامهم أنه من الفلاسفة، و يظهر ذلك في :

اتصال رؤساء البدعة بالفلاسفة، و نشرها في المسلمين

موافقتهم للفلاسفة في بعض جهالاتهم و أصل أصول جهالاتهم – العقل المعصوم -

قال ابن تيمية : وكان الجعد هذا – فيما قيل– من أهل حران وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة ... كانت الصابئة إلا قليلا منهم إذ ذاك على الشرك وعلماؤهم الفلاسفة ...

ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب : أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل إليهم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة.

وكذلك أبو نصر [ محمد بن محمد ] الفارابي ( ت : 339 ) دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضا .اهـ[1]

و ذكر الفارابي عن نفسه : أنه أخذا الفلسفة عن يوحنا بن حيلان[2]

قال أبو العباس ابن خلكان أحمد بن محمد ( ت : 681 ) : أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي التركي الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم، وهو أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي ابن سينا - المقدم ذكره - بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه ... ولما دخل بغداد كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يقرأ الناس عليه فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق، وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس في المنطق ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه في شرحه سبعون سفرا، ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه، وكان حسن العبارة في تواليفه لطيف الإشارة، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذليل، حتى قال بعض علماء هذا الفن : ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر يعني المذكور، وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته.

فأقام أبو نصر كذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفا من المنطق أيضا، ثم أنه قفل راجعا إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها، ويقال إنه وجد "كتاب النفس" لأرسطاطاليس وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي : إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة. ونقل عنه أنه كان يقول : قرأت "السماع الطبيعي" لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته. ويروى عنه أنه سئل : من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطاطاليس فقال : لو أدركته لكنت أكبر تلامذته .اهـ[3]

و انتقال الفلسفة إلى المسلمين و افتتان و انشغال طوائف بها من المسلَّمات، و لما كانت الفلسفة ممقوتة غُيِّر اسمها وهذبت، و ظهر "علم الكلام" و المقصود به الانتصار للإسلام بالأدلة العقلية

قال ابن خلدون أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ( ت : 808 ) في تعريف علم الكلام : هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة .اهـ[4]

و قال : وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله : إنّما هو العقائد الإيمانيّة بعد فرضها صحيحة من الشّرع من حيث يمكن أن يستدلّ عليها بالأدلّة العقليّة فترفع البدع وتزول الشّكوك والشبه عن تلك العقائد .اهـ[5]

بخلاف "الفلسفة" التي يستقل فيها العقل عن النقل و عن الشرائع

قال ابن خلدون : وفرّقوا بينه وبين العلوم الفلسفيّة بأنّه قانون ومعيار للأدلّة فقط يسبر به الأدلّة منها كما يسبر من سواها .اهـ[6]

ثم ذكر إقحام الغزالي و ابن الخطيب [ هو الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر ( ت : 606 ) الملقب بالفخر بـ فخر الدين[7] ] الفلسفة في علم الكلام، ثم اختلاط العلمين عند المتأخرين فلم يميزوا بينهما

قال : وتسمّى طريقة المتأخّرين، وربّما أدخلوا فيها الرّدّ على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانيّة وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأوّل من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزاليّ - رحمه الله - وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم، ثمّ توغّل المتأخّرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما .اهـ[8]

قال : ولقد اختلطت الطّريقتان عند هؤلاء المتأخّرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميّز أحد الفنّين من الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاويّ في "الطّوالع" ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم ... وأمّا محاذاة طريقة السّلف بعقائد علم الكلام فإنّما هو في الطّريقة القديمة للمتكلّمين وأصلها كتاب "الإرشاد" [ للجويني ] وما حذا حذوه. ومن أراد إدخال الرّدّ على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزاليّ والإمام ابن الخطيب فإنّها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخّرين من بعدهم .اهـ[9]

لكن في النهاية "علم الكلام" ما هو إلا تورية عن الفلسفة، و محاولة التوفيق بين الشريعة و الدليل العقلي، مع تقديم الدليل العقلي، فالقول بأنه انتصار للشرع و المحاجة عنه باطل، بل هو تحريف الشريعة حتى تنزه عن مخالفة العقل- لا الانتصار للمعنى الذي تضمنه النقل حسب الوضع اللغوي العربي الذي نزل القرآن به –، فينكرون صفات الله التي يحيلها العقل و يتأوّلون النصوص التي أثبتتها على معنى لا يتعارض و الدليل العقلي، وإن كان نهايتها التعطيل، هذا هو الدفاع المزعوم، و هذا منهج المعتزلي عبد الجبار بن أحمد أبي الحسين ( ت : 415 ) في كتابه "تنزيه القرآن عن المطاعن"، و الأشعري ابن فورك محمد بن الحسن ( ت : 406 ) في "مشكل الحديث و بيانه"، و هو أصل الأشعري فالذي لا يعرف حقيقة كلام الأشعري و أصحابه المتقدمين يظن أنهم يثبتون الصفات، و أنّ المتأخرين منهم خالفوا المتقدمين، و هم إنما يثبتون الروايات و يجوّزون إطلاق الصفات التي تضمنتها  - لأنه لا يمنع أن يصف الله نفسه في كتابه بما هو منزّه عنه، و لا يمنع من إطلاقه و إضافته لله –  لكن لا يُعتقد معناها، و إنما يُعتقد صفة لله ما جوّزه العقل.  هذا هو معنى الدفاع عن الكتاب و السنة عندهم، بل هذا هو التلاعب بالألفاظ، و بهذا تدرّجوا إلى أهل السنة حتى أحسن الظن بهم كثير منهم، و نقل كلام الأشعري و بعده ابن فورك في هذا المعنى تركته لبحث و كتاب آخر

ولهذا ما يتبناه الأشاعرة و الماتريدية هو عين ما أنكره السلف على الجهمية و المعتزلة، و أشهرها :

إنكار علو الله و استوائه على عرشه

رؤية الله يوم القيامة

و القول بخلق القرآن

العلو يرجع إلى علوم القهر، و الرؤية ترجع إلى العلم، و القرآن مخلوق، لأن كلام الله نفسي

فهم عند سلف الأمة من جملة الجهمية، و لا يخالف في هذا منصف

فلم ينكر السلف علي "الجهمية" و "المعتزلة" :

إنكار الآيات القرآنية : لأنهم لم ينكروها.

و لم ينكروا عليهم تأويلها : إلا لأنهم يعطلون معناها، والمعتزلة رأوا ردّ السنن بعدم ثبوتها لمخالفتها للعقل أولى من تأويلات تطعن في الكلام النبوي، و تفقد الثقة به، و تفتح الباب لكل مريد للتحريف، لهذا يجوزون التأويل القريب

قال أبو الحسين البصري محمد بن علي المعتزلي ( ت : 436 ) : فمتى ورد خبر بخلاف ذلك فإن أمكن تأويله من غير تعسف جوزنا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله وعنى التأويل الصحيح وإن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله على ذلك الوجه لأنه لو جاز التأويل مع التعسف بطل التناقض من الكلام كله، ويجب فيما لا يمكن تأويله القطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله وإن كان قاله فإنما قال حكاية عن الغير أو مع زيادة أو نقصان يخرج بهما من الإحالة .اهـ[10]




[1] الفتوى الحموية الكبرى ص : 235 – 236 ، 239 – 240

[2] عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص : 605

[3] وفيات الأعيان 5 / 153 – 154

[4] تاريخ ابن خلدون ( المقدمة ) 1 / 580

[5] تاريخ ابن خلدون ( المقدمة ) 1 / 580

[6] تاريخ ابن خلدون ( المقدمة ) 1 / 590

[7] نسب إليه ابن خلدون في موضع كتاب "المباحث المشرقية". و هو  كتاب الرازي الملقب بالفخر.

[8] تاريخ ابن خلدون ( المقدمة ) 1 / 590

[9] تاريخ ابن خلدون ( المقدمة ) 1 / 591

[10] المعتمد 2 / 641 – 642 ، ونحوه مختصرا في  2 / 549 – 550

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق