القرآن والعلم الحديث: "الأرض" 01
✍بوعلام محمد بجاوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
المطلب الأول : تقدمة
من أركان الإيمانِ : الإيمانُ بالكتب المنزلة من الله على رُسله – عليهم السلام – و أن ما فيها من أخبار حق يجب تصديقه تصديقا لا يزاحمه شك.
كان الخبر عن :
الله تعالى : صفاته وأفعاله
أو عن العالم الـمُغَيَّب عنا : الملائكة والجن والبرزخ واليوم الآخر
أو عن أسرار العالم الذي نعيش فيه مما لا تدركه حواسنا : كالمغيب في باطن الأرض أو فوقنا كالنجوم والكواكب حقيقتها و سيرها و أحوالها، و كالأرض نفسها لسعتها فلا يحيط البصر بها ليَتَعرَّف حقيقتها
أو عن الأمم السابقة التي لم ندركها : كقصص الأنبياء مع أقوامهم
وهذا والذي قبله : الجهل به لا يقدح في الإيمان لمن لم يبلغه "الخبر" عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لمن علم "الخبر" لم يسعه إلا التصديق به، فردّه ورفضه ومخالفته تكذيب لـ "الوحي"
لكن الكتب دخلها التحريف و التبديل والزيادة و النقص، و لم يسلم إلا "القرآن" لأنه آخر الكتب، المنزل على آخر الرسل فمن ضرورة بقاء الحجة على الناس بقاؤُه سالما من أدنى تغيير، لكن يستأنس بـ "الكتب السابقة" في تأكيد ما في "القرآن" أو بعض التفاصيل في القصص التي لا يبنى عليها حكم ولا يضرّ الجهل بمعرفتها – لهذا لم يذكرها "القرآن" –، كما هو ظاهر في تفاسير السلف
لكن في كل زمان ترفع راية ازدراء "الوحي" إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال، وذلك بِنِسْبَةِ من يتبع "الوحي" إلى التقليد وتعطيل العقل والعلم، أي أن الواجب عرض "القرآن" على العقل والعلم فما وافقه حكم بصدقه وما خالفه ردّ بصرف اللفظ عن ذلك المعنى الذي أحاله العقل، و هو ما يعرف بـ "التأويل" و لو كانت دلالته على ذلك المعنى "نصا" أي أنه لا يحتمل غير ذلك المعنى، فَتُفْرض له الاحتمالات البعيدة، لا لحمل اللفظ عليها، و إنما لزعزعة اللفظ عن "النصية" إلى "الظهور" – وهو : اللفظ الذي له معنى ظاهر هو الأولى بحمل اللفظ عليه، لكن له معان أخرى مرجوحة، لا يحمل عليها إلا بدليل صارف – و هذا كاف عندهم لاستباحة اللفظ بتحكيم العقل عليه لأن دلالة العقل "قطعية" و دلالة الظاهر "ظنية"، و"القطع" مقدّم على "الظن"، فينزل "الظاهر" في مخالفة "العقل" أو فيما يطلب فيه "القطع" وهي العقائد منزلة "المجمل" الذي يحتمل أكثر من معنى فلا يمكن الاستدلال به إلا بمرجح لأحد المعنيين أو المعاني كلفظ "القرء" في قوله تعالى { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [ البقرة 228 ] مشترك بين "الحيض" و "الطهر" وعليه هل تعتد المطلّقة ثلاثة أطهار أو ثلاث حيضات ؟، لا بدّ من طلب الـمُرَجِّح من دليل آخر و إلا تَعَطّل الاستدلال بالآية
ونهاية هذا : الألفاظ كلها "ظنية" و كلها مرجوحة أمام العقل و معطلة كـ "اللفظ المجمل" فيما يطلب فيه "القطع" كصفات الله و أفعاله، فلا مكان لـ "الوحي" في "القطعيات"، وهذه عادة "المتكلمين" المنتسبين للسنة والجماعة : الاختباء و التستر خلف التقاسيم و لا معنى لذلك التقسيم في العمل و إنما هو تقرير نظري
قال الجويني عبد الملك بن عبد الله ( ت : 478 ) : والوجه تصدير هذا الفصل بأمرين :
أحدهما : إبانة بطلان الاستدلال بـ "الظاهر" فيما المطلوب منه "القطع"
لأن "معناه الظاهر" غير مقطوع به فلا يسوغ وضع الاستدلال به على ما هذا سبيله وإن قدّر ذلك من مُستدل أشعر بجهله بأحد أمرين :
[ الأول ] : إما أن يجهل كونه ظاهرا أو يعتقده نصا والأمر على خلاف ما يقدره
[ الآخر ] : وإما أن يجهل تمييز مواقع العلوم عن مجال الظنون[1]
والجاهل بالوجه الأول أحق بأن يعذر من الجاهل بالرتبة الثانية
ثم إذا فرض ذلك في المستدل فليس من حق المستدل عليه أن يشتغل بالتأويل بل يكفيه أن يبين تطرق الاحتمال وخروج اللفظ عن "القواطع".
وإذا وضح ذلك التحق الظاهر في محل طلب العلم [ "القطع" ] بـ "المجملات" التي لا تستقل بأنفسها.
والثاني : أن الظاهر حيث لا يطلب العلم [ "القطع" ] معمول به، والمكلف محمول على الجريان على ظاهره في عمله .اهـ[2]
وإذا طعن في "القرآن" بتلك الآيات التي تنسب لمخالفة العقل يتكلّفون تأويلها، ويرون ذلك دفاعا منهم عن "القرآن" الذي يزعمون الإيمان به، فهم يقطعون بـ "القرآن" أنه وحي من عند الله، و يقطعون بالأصول و الأدلة العقلية و ما تفرع عنها، فيقع التعارض عندهم، والأدلة العقلية لا يمكن زعزعتها عندهم بخلاف "القرآن" فإنه كلام، و الكلام يدخله التأويل
خلاصة قولهم :
العقل : لا يخطئ
الكلام : محتمل
والإطلاقان باطلان : العقل يصيب و يخطئ، و الكلام منه ما يقبل "التأويل" فتكون دلالته "ظنية"، و منه ما لا يقبل "التأويل" فتكون دلالته "قطعية"، مع أنه لا بدّ من العمل بـ "الظاهر" واعتقاده إلا إذا وجد ما يعارضه حقيقةً لا ما يدعيه المخالف أنه "قطعي"
قال الجويني : المعقولات تنقسم إلى :
البدائه : وهي التي يهجم العقل عليها من غير احتياج إلى تدبر
وإلى ما لا بد فيه من فرط تأمل : فإذا تقرر على سداده أعقب العلم الضروري إن لم يطرأ آفة
ثم ليس في العقليات على الحقيقة انقسام إلى جلي وخفي فإن قصاراها كلها العلم الضروري ولكن يتطرق إليها نوعان من الفرق
أحدهما : أن الشيء قد يحوج إلى مزيد تدبر لبعد القريحة عن معاناة الفكر في أمثاله، ولا شيء طال الفكر فيه أو قصر إلا بتجريد الفكر في جهة الطلب فهذا نوع من الفرق بين النظرين .
والنوع الثاني : أن الناظر قد يبغي شيئا نازحا بعيدا يقع بعد عشر رتب مثلا من النظر ويطول الزمان في استيعاب معناها وقد يطرأ على الناظر في الأواخر نسيان الأوساط والأوائل فيتخبط النظر وقد يكون المطلوب في الرتبة الثالثة مثلا فيقرب المدرك ولا يتوعر المسلك ولا يطرأ من الذهول في ذلك ما يطرأ على من يتعدد عليه رتب النظر ويطول الزمان في استيعاب جميعها على الطالب قبل مطلوبه
فهذا هو تفاوت النظر والناظر وإلا فليس في حقيقة النظر العقلي المفضي إلى العلم تفاوت .اهـ[3]
خلاصة قوله أن العقل لا يخطئ و إنما يخطئ العاقل والناظر لعدم تجريد الفكر في المطلوب، الخطأ في الاستدلال و المقدمات – السير في الطريق الخطأ – أو لاختيار الطريق الأطول مع وجود الأقرب، و الطريق الأطول مظنة الغفلة، فقد يغفل عن المقدمات الأولى التي قرّرها.
و هذا يكفي في أن الناظر والعاقل يصيب ويخطئ في غير البدائه بل وفي البدائه، عندما يلقن حقائق منذ نشأته و تكرر على سمعه و بصره، فلا يعمل عقله في مراجعتها لا عتقاده "القطع" فيما لُقّن، وحتى لو نظر فسيبقى أسير المقدمات الخاطئة التي بني عليها، والقليل من يُوفق للرجوع إلى المقدمات ويعيد النظر فيها
فلا يكفي أن يصدر الحكم من عالم ليكون "مقطوعا" به بحجة أن العقل لا يخطئ
والناظر في العقليات التي يرد بها الوحي يجدها مصادمة للبدائه، لأن القصد الأول منها الطعن في الوحي، ثم يأتي أتباع الوحي فيأخذونها و يعتقدونها و يتأولون الوحي بحمله عليها، أو يأخذون الأصل الذي بني عليها – الدليل العقلي – ويوجهونه حتى لا تتعارض أحكامه مع الوحي، فيخرجون بمذهب وسط بين "أهل الوحي" و "الطاعنين فيه"، بيانه فيما يأتي من كلام
الهوامـــــــــش
[1] عدم التفريق بين الظنيات و القطعيات
[2] البرهان 1 / 513 – 514 ف : 427 ، 428
[3] البرهان في أصول الفقه 1 / 155 – 157 ف : 68
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق