الأربعاء، 24 فبراير 2021

القرآن والعلم الحديث : "الأرض" 06

القرآن والعلم الحديث الأرض 06
القرآن و العلم الحديث : "الأرض"
06

✍بوعلام محمد بجاوي

ثم تبنّت "المعتزلة" هذا المذهب – بعدما كان ضلالها في نفي القدر –  واشتهر بها – و لهذا يسميهم السلف بالجهمية، وكل من سلك مسلكهم جهمي عندهم؛ لأنه يسير على أصولهم و على تعطيل الصفات– ، و وصل الأمر إلى أن يمتحن علماء أهل السنة به

قال الدارمي : ثم لم يزالوا بعد ذلك مقموعين أذلة مَدْحورين حتى كان الآن بأخرة، حيث قلّت الفقهاء وقبض العلماء، ودعا إلى البدع دعاة الضلال، فصد ذلك طمع كل متعوذ في الإسلام من أبناء اليهود والنصارى وأنباط العراق، ووجدوا فرصة للكلام، فجدوا في هدم الإسلام وتعطيل ذي الجلال والإكرام، وإنكار صفاته، وتكذيب رسله وإبطال وحيه؛ إذ وجدوا فرصتهم وأحسوا من الرعاع جهلا، ومن العلماء قلة؛ فنصبوا عندها الكفر للناس إماما بدعوتهم إليه، وأظهروا لهم أغلوطات من المسائل وعمايات من الكلام، يغالطون بها أهل الإسلام؛ ليوقعوا في قلوبهم الشك ويلبسوا عليهم أمرهم ويشككوهم في خالقهم، مقتدين بأئمتهم الأقدمين الذين قالوا } إن هذا إلا قول البشر { [ المدثر : 25 ] و } إن هذا إلا اختلاق { [ ص : 7 ] .اهـ[1]

ثم ضعفت شوكتهم و عادوا غرباء، لأن قوتهم كانت بالسيف، وقد أفل

لكن من المنتسبين للسنة من وافق "المعتزلة" على الأصول - و هو الدليل العقلي - و خالفهم في التعطيل ظاهرا، فأثبتوا بعض الصفات - على معنى لا يتعارض و الدليل العقلي – فسُموا بـ "الصفاتية"، و أثبتوا الغيبيات المتعلقة بالخلق كعذاب القبر و نعيمه – و ردّوا على "المعتزلة"، وإمامُهم "ابن كلاب عبد الله بن سعيد ( قال الذهبي : ولم أقع بوفاة ابن كلاب، وقد كان باقيا قبل الأربعين ومئتين . اهـ[2] )" و من أشهر أتباعه الحارث بن أسد المحاسبي ( ت : 243 ) و أبو العباس أحمد بن عبد القلانسي ثم الأشعري علي بن إسماعيل ( ت : 324 )، وكان هذا مذهبا مرفوضا ومهجورا.

قال ابن تيمية : و أما الحارث المحاسبي : فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، و لهذا أمر أحمد [ ابن حنبل ( ت : 241 ) ] بهجره[3]، و كان أحمد يحذر من ابن كلاّب و أتباعه، ثم قيل عن الحارث إنه رجع عن قوله .اهـ[4] 

و كان ابن خزيمة محمد بن إسحاق ( ت : 311 ) – صاحب الصحيح – شديدا عليهم، و قصة إنكاره على تلميذه أبي علي الثقفي محمد بن عبد الوهاب ( ت : 328 ) – و كان صاحب علم وديانة – في مسألة "كلام الله" التي تبع فيها "ابن كلاب" مشهورة، وممن ذكرها : الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ( ت : 405 ) – صاحب المستدرك على الصحيحين – في "تاريخ نيسابور"[5]

لكن اشتهر هذا المذهب بـ "الأشعري علي بن إسماعيل ( ت : 324 )" الذي كان معتزليا أربعين سنة، ثم أظهر ضلال "المعتزلة" و أعلن إثبات الصفات و ردّ على "المعتزلة" تعطيلَها و انتسب إلى السنة و أهل الحديث سالكا مسلك "ابن كلاب" و أصحابه

قال الشهرستاني أبو الفتح محمد بن عبد الكريم ( ت : 548 ) : حتى انتهى الزمان إلى "عبد الله بن سعيد الكلابي" و أبي العباس [ أحمد بن عبد الرحمن ] القلانسي و الحارث بن أسد المحاسبي، و هؤلاء كانوا من جملة السلف، إلا أنهم باشروا علم الكلام، و أيّدوا عقائد السلف بحجج كلامية، و براهين أصولية، و صنّف بعضهم، حتى جرى بين "أبي الحسن الأشعري" و بين أستاذه مناظرة في مسائل الصلاح و الأصلح، فتخاصما[6]، و انحاز "الأشعري" إلى هذه الطائفة، فأيّد مقالتهم بمناهج كلامية، و صار ذلك مذهبا لأهل السنة و الجماعة، و انتقلت سمة "الصفاتية" إلى "الأشعريّة" .اهـ[7] 

و قال ابن تيمية : و كان "أبو محمد بن كلاّب" هو الأستاذ الذي اقتدى به "الأشعري" في طريقه، هو و أئمة أصحابه كـ : الحارث المحاسبي، و أبي العباس القلانسي، و أبي سليمان الدمشقي، و أبي حاتم البستي .اهـ[8]

و ذهب إلى أن ابن كلاّب أقرب إلى السلف من الأشعري

قال : و ابن كلاب إمام الأشعرية أكثر مخالفة لهم، و أقرب إلى السلف من الأشعري نفسه .اهـ[9] 

و كما اشتهرت عقيدة الجعد بـ "المعتزلة" اشتهرت عقيدة الاعتزال بـ "الأشعري" – و عليها متأخروا المالكية و الشافعية –، و أقلّ منه شهرة "أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي" – و عليها متأخروا الأحناف، و لعلّ الاستثناء الوحيد السمناني أبو جعفر محمد بن أحمد ( ت : 444 ) ، و كان تلميذا لابن الباقلاني، حنفي أشعري – ، يختلفان في مسائل يسيرة أفردت بالتصنيف، منها : أن الكلام النفسي مسموع عند الأشعري خلافا للماتريدي

وحتى مِن "الحنابلة" – مع العداء بينهم و بين الأشعرية   مَن هم متأثرون بعقيدة ابن كلاب، مثل : أبي يعلى محمد بن الحسين ( ت : 458 )  صاحب "إبطال التأويلات" و معاركه مع الأشعرية مشهورة[10]

و كما كان للسلطان دور في تمكن الاعتزال كان الأمر كذلك مع الأشعرية، الدولة الأيوبية في مصر و الشام و الموحدون في المغرب

قال المقريزي أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر ( ت : 845 ) : و أما العقائد : فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ، تلميذ أبي علي [ محمد بن عبد الوهاب ] الجبائيّ ( ت : 303 )، و شرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر، كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعيّ من القرافة، و المدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية بجوار جامع عمرو بن العاص بمصر، و المدرسة المعروفة بالقمحية بمصر، و خانكاه سعيد السعداء بالقاهرة، فاستمرّ الحال على عقيدة الأشعريّ بديار مصر و بلاد الشام و أرض الحجاز و اليمن و بلاد المغرب أيضا، لإدخال محمد بن تومرت ( ت : 524 ) رأي الأشعريّ إليها، حتى أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد، بحيث أن من خالفه ضرب عنقه، و الأمر على ذلك إلى اليوم، و لم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة و أحمد بن حنبل، ثم اشتهر مذهب أبي حنيفة و أحمد بن حنبل في آخرها.

فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، ولي بمصر و القاهرة أربعة قضاة، و هم : شافعيّ و مالكيّ و حنفيّ و حنبليّ، فاستمرّ ذلك من سنة خمس و ستين و ستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، و عقيدة الأشعريّ، و عملت لأهلها المدارس والخوانك و الزوايا و الربط في سائر ممالك الإسلام، و عودي من تمذهب بغيرها، و أنكر عليه، و لم يولّ قاض و لا قبلت شهادة أحد و لا قدّم للخطابة و الإمامة و التدريس أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، و أفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، و العمل على هذا إلى اليوم .اهـ[11] 



[1] الرد على الجهمية ص : 32

[2] سير أعلام النبلاء 11 / 175

[3] عزاه ابن الجوزي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي ( ت : 597 ) في "تلبيس إبليس" إلى السنة للخلال ص : 151

[4] درء تعارض العقل و النقل 2 / 6

[5] درء تعارض العقل و النقل 2 / 78 – 82

[6] و هذا هو حال من اتخذ دينه عرضة للخصومات

[7] الملل و النحل

[8] منهاج السنّة النبوية 2 / 327

[9] مجموع الفتاوى 12 / 202 – 203

[10] ينظر تأثر الحنابلة بالأشعرية : الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث 73 - 83

[11] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار و ينظر : الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث خلال القرنيـن الخامس  و السادس ص : 179 – 180 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق