شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم 14
✍بوعلام محمد بجاوي
الخلاصة :
قال البغوي أبو محمد
الحسين بن مسعود ( ت : 516 ) : و رُوي عن "أبي
عبد الرحمن [ عبد الله بن حبيب ] السلمي ( ت : 74 )" [ سمع القراءة من : عثمان
و علي و زيد و أُبَي و ابن مسعود رضي الله عنه
]، قال :
كانت قراءة أبي بكر و عمر و عثمان و زيد بن ثابت و المهاجرين و الأنصار واحدة،
كانوا يقرءون "قراءة العامة"، و هي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه
وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، و كان عليّ طول أيامه يقرأ مصحف
عثمان، و يتخذه إماما.
و يقال : إن "زيد بن ثابت" شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى
الله عليه وسلم على جبريل، وهي التي بين فيها ما نسخ وما بقي.
قال "أبو عبد الرحمن السلمي" : قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام
الذي توفاه الله فيه مرتين، و إنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه
كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و قرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، و كان
يقرئ الناس بها حتى مات، و لذلك اعتمده أبو بكر و عمر في جمعه، و وّلاه عثمان كتبة
المصاحف رضي الله عنهم أجمعين .اهـ[1]
قال أبو شامة : و اعلم أن حاصل ما شهدت به الأخبار المتقدمة، وما صرّحت
به أقوال الأئمة أن تأليف القرآن على ما هو عليه الآن كان في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم بإذنه وأمره[2]، وأن جمعه في الصحف خشية دثوره بقتل قرائه
كان في زمن أبي بكررضي الله عنه، و أن نسخه في مصاحف حملا للناس على اللفظ المكتوب
حين نزوله بإملاء المنزل إليه صلى الله عليه وسلم، و منعًا من قراءة كل لفظ يخالفه
كان في زمن عثمان رضي الله عنه، و كأن أبا بكر كان غرضه أن يجمع القرآن مكتوبا
مجتمعا غير مفرق[3]
على اللفظ الذي أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم على كتبة الوحي ليعلم ذلك، ولم
يكل ذلك إلى حفظ من حفظه خشية فنائهم بالقتل و لاختلاف لغاتهم في حفظهم على ما كان
أبيح لم من قراءته على سبعة أحرف ... فلما ولي عثمان و كثر المسلمون وانتشروا في
البلاد وخيف عليهم الفساد من اختلافهم في قراءاتهم لاختلاف لغاتهم حملهم عثمان على
ذلك اللفظ الذي جمعه "زيد" في زمن أبي بكر، و نفي ما عداه ليجمع الناس
على قراءة القرآن على وفق ما نزل على محمد صلى الله عيه وسلم، ولا يكثر فيه التصرف، فيتفاحش تغيره،
وتنمحق ألفاظه المنزلة...
فقد اتضح بما ذكرناه معنى ما فعله كل واحد
من الإمامين أبي بكر و عثمان رضي الله عنهما، وتبين أن قصد كل واحد منهما غير قصد
الآخر، فأبو بكر قصد جمعه في مكان واحد، ذخرًا للإسلام يرجع إليه إن اصطلم –
والعياذ بالله – قراؤه، و عثمان قصد بجمعه أن يقتصر الناس على تلاوته على اللفظ
الذي كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتعدوه إلى غيره من القراءات التي
كانت مباحة لهم، المنافية لخط المصحف من الزيادة والنقصان وإبدال الألفاظ .اهـ[4]
وسبق كلام البيهقي : و روينا عنه أن الجمع في الصحف كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه، و النسخ في المصاحف في زمن عثمان، و كان
ما يجمعون و ينسخون معلوما لهم، فلم يكن به حاجة إلى مسألة البينة .اهـ[5]
وما يُذْكر من أن أبا بكر جمع الأحرف السبعة، و عثمان اقتصر على حرف
واحد لا دليل عليه، الفرق بين الجمعين أمران :
الأول : نقل القرآن
من الصحف إلى المصحف
الآخر : إلزام الناس
بالمصحف الذي أقرّه الصحابة
فلا يحلّ لمسلم الخروج عن هذا المصحف
قال الطحاوي
أبو جعفر أحمد بن
محمد بن سلامة ( ت : 321 ) في
"عثمان رضي الله عنه" : ومن ذلك ما اختص به "عثمان رضي الله عنه" وهو منهم [
الخلفاء ] من كتابة "المصاحف"، و بثّها في
البلدان حتى جمع اللهُ الناسَ به على حرف واحد[6]، أقام به الحجة، و أبان
به أن من خالف حرفا منه كان كافرا، و أعاذنا الله عزّ وجلّ به أن نكون كأهل
الكتابين قبلنا، الذين اختلفوا في كتابهم حتى تهيأ لمن تهيأ منهم تبديله، و حتى
تكافؤوا فيما يدعون من الاختلاف فيه .اهـ[7]
تنبيهات
التنبيه الأول : نقل "القرآن" : اجتمع
فيه ضبط الصدر و ضبط الكتاب
و من أقول السلف : "لا يأخذ القرآن من مصحفي" [ (عبد الرحمن) ابن أبي حاتم (ت:327) :"نا" أبي
(محمد بن إدريس ( ت : 277 )) و أبو زرعة (عبيد الله بن عبد الكريم ( ت : 264)
الرازيان ) قالا "نا" عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم
الدمشقي "نا" الوليد عن سعيد - يعني ابن عبد العزيز - عن سليمان بن موسى
أنه قال : لا تأخذوا الحديث عن الصحفيين و لا تقرأوا القرآن على المصحفيين.
حدثني أبي "نا" إسحاق بن الضيف قال سمعت أبا
مسهر يقول سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول : لا تأخذوا العلم عن صحفي ولا
القرآن من مصحفي.[8]
]، و بهذا تسقط شبهة من الشبه – و إن كان يغني عن ردّها
أنها شبهة –، و هي أن "القرآن" في أوّل الأمر لم يكن مضبوطا بالإعجام – النقط – و
الحركات، و هذا يوجب الاختلاف فيه .
و إلى اليوم لا زال "القرآن"
و حِفظه مستغنيا بصدور المؤمنين عن الكتب، و إنما يحتاج إلى "الكتاب" من لا يحفظ
التنبيه الثالث : الأصل في فعل عثمان رضي الله عنه : أن اختلاف القراءة "رخصة"
فلمّا أدت الرخصة إلى مفسدة وجب تركها و الرجوع إلى
العزيمة
قال ابن رجب أبو الفرج
عبد الرحمن بن أحمد بن رجب ( ت : 795 ) :
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ أمته
القرآن في زمانه على أحرف متعدّدة تيسيرا على الأمة لحفظه و تعلّمه، حيث كان فيهم
العجوز و الشيخ الكبير، و الغلام و الجارية، و الرجل الذي لم يقرأ كتابا قط.
فطلب لهم الرخصة في حفظهم له أن يقرئهم على سبعة أحرف
كما ورد في حديث أبيّ بن كعب[9]
و غيره
ثم لما انتشرت [ و الحمد لله ] كلمة الإسلام في الأقطار،
و تفرّق المسلمون في البلدان المتباعدة صار كل فريق منهم يقرأ القرآن على الحرف
الذي وصل إليه، فاختلفوا حينئذ في حروف القرآن، فكانوا إذا اجتمعوا في الموسم أو
غيره اختلفوا في القرآن اختلافا كثيرا، فأجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد عثمان على جمع الأمة على حرف واحد
خشية أن تختلف هذه الأمّة في كتابها كما اختلف الأمم قبلهم في كتبهم، و راوا أن
"المصلحة" تقتضي ذلك، و
حرّقوا ما عدا هذا الحرف الواحد من المصاحف، و كان هذا من محاسن أمير المؤمنين
عثمان رضي الله عنه التي حمده عليها عليّ و حذيفة و أعيان الصحابة
و إذا كان عمر قد أنكر على هشام بن حكيم بن حزام على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم في آية أشد الإنكار[10]،
و أبيّ حصل له بسبب اختلاف القرآن ما أخبر به عن نفسه من الشكّ،[11] و
بعض من كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ارتدّ
بسبب ذلك حتى مات مرتدّا[12].
هذا كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكيف الظن
بالأمّة بعده أن لو بقي الاختلاف في ألفاظ القرآن بينهم .اهـ[13]
التنبيه الثالث : اختلف القراء في تحديد آي القرآن[14]
من الشبه التي
تثار اليوم عدّ الآي في بعض المخطوطات القديمة للقرآن، و أنها أكثر أو أقل مما هي
عليه في المصاحف اليوم، و يستدلون به على سقوط بعض آي القرآن أو زيادة بعض الآي
فيه، والخلاف إنما هو في العد لا في كلمات القرآن، كالخلاف في "سورة الإخلاص"، هل هي أربع آيات أو خمس،
لكن لا خلاف في كلمات وحروف سورة الإخلاص
قال الداني : سورة الصمد : ...وهي خمس آيات في
المكي والشامي وأربع في عدد الباقين
اختلافها آية } لم يلد { عدها المكي والشامي ولم يعدها الباقون .اهـ[15]
ومن أشهر ما
صنف في هذا الباب كتاب الداني أبي عمرو عثمان بن
سعيد ( ت : 444 ) : "البيان في عدّ آي
القرآن"
قال : وجملة السور المختلف في عدد الآي فيهن خمس وسبعون سورة، واللائي لا خلاف فيهن تسع وثلاثون سورة.
وجملة
المختلف فيه من الآي مئتا
آية وسبع وأربعون آية
وجملة
الفواصل اللائي يشبهن رؤوس الآي وليس معدودات بإجماع مئتان وثمان وعشرون فاصلة
.اهـ[16]
وما قيل في عدّ الآي يقال في
أسماء السور، فقد وجد من يطعن في القرآن بأن أسماء السور في بعض المخطوطات القديمة
على خلاف أسمائها في المصاحف المتداولة اليوم.
ولا يقدح في القرآن اختلاف ترتيب السور في مصاحف
الصحابة. لأن نظم القرآن كلماته وحروفه - إلا ما نزل على أكثر من حرف - لا يختلف،
كما لا يختلف باختلاف عدّ الآي
[1] شرح السنة 4 / 525 – 526
[2] سبق الإشارة إلى "ترتيب السور" هل هو توقيفي أو اجتهاد من
الصحابة
[3] أثبت المحقق "متفرق"
[4] المرشد الوجيز 204 – 206
[5] المدخل إلى
السنن الكبرى 2 / 499 – 500
[6] كلامه صريح في
أن الاختلاف في مصاحف عثمان ترجع إلى حرف واحد
[7] بيان المشكل (
شرح مشكل الآثار ) 10 / 260
[8] الجرح
والتعديل 2 / 31 .و
قول سعيد بن عبد العزيز : أخرجه ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال"
1 / 259 و العسكري أبو أحمد الحسن بن عبد الله ( ت : 382 )
في "تصحيفات المحدثين"
[9] صحيح البخاري 3219 ، 4991 – صحيح مسلم 819
[10] البخاري 2419 ، 4992 ، 5041 ، 6936 ، 7550 – مسلم 818
[11] صحيح مسلم 820
[12] قال ابن حجر : و أوّل من كتب
له بمكة من قريش : عبد الله بن سعد بن أبي سرح [ تبعا لابن قتيبة. الاستيعاب 1 / 68 ] ، ثم ارتدّ ثم عاد إلى الإسلام
يوم الفتح . اهـ فتح الباري 9 / 22 و قصته في طبقات ابن سعد 447 – 449 ( الجزء المتمم لطبقات ابن سعد : الطبقة الرابعة
: ممن أسلم عند فتح مكة وما بعد ذلك )
[13] الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة 2 /
620 – 621
[14] و يبقى تنبيه
رابع يراجع في "مختصر في جمع القرآن"
[15] البيان في عدّ آي القرآن ص : 296
[16] البيان في عدّ آي القرآن ص : 83
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق