الأربعاء، 27 مايو 2020

شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم 13

شرح نصيحة المعلمي 13
شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم
13

✍بوعلام محمد بجاوي

الثانية : بالكتابة
فكان يكتب في "العهد النبوي" في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها [ "العسب" و "الرقاع" و "اللّخاف" حجارة بيض رقاق، و بالاعتماد على ما كُتِبَ في زمانه صلى الله عليه وسلم جمعه الصحابة رضي الله عنهم، فالقرآن كله قد كتب في عهد "النبي" صلى الله عليه وسلم، لكن غير مجموع في موضع واحد، بل موّزع و مفرّق على الصحابة، و عليه غير مرتب السور، و اختلف أهل العلم في ترتيب السور هل هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم أو اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم، هذا الأخير هو الأقرب، و لهذا اختلفت مصاحف الصحابة في ترتيب السور[1]، و إنما لم يجمع في عهد "النبي" صلى الله عليه وسلم للتعذر، لأنه كان ينزل غير مرتب و لاحتمال النسخ
قال البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين ( ت : 458 ) : و يشبه أن يكون "رسول الله" صلى الله عليه وسلم إنما لم يجمعه في "مصحف" واحد لما كان يعلم من جواز ورود النسخ على أحكامه و رسومه، فلما ختم الله دينه بوفاة "نبيه" صلى الله عليه وسلم و انقطع الوحي قيّض بخلفائه الراشدين عند الحاجة إليه جمعه بين الدفتين .اهـ[2]
فـ "أبو بكر" رضي الله عنه تتبع "المكتوب"، و لم يكتف بـ "المسموع"[3] و السبب التثبت، و التقيد بالرسم، لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، أي الجمع بين المسموع و المكتوب[4]، و لذلك توقّف عن كتابة الآية من آخر "سورة براءة" حتى وجدها "مكتوبة" عند خزيمة بن ثابت مع أنه كان يحفظها هو و من كلّف بالجمع لكن لم تقع له مكتوبة[5] ] :  
[ الجمع الثاني : ] حتى طلبها "عثمان" [ رضي الله عنه ] في خلافته [ بعد أن نبّهه "حذيفة بن اليمان"  رضي الله عنه لما رأى من تنازع الناس في القراءة : يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في "الكتاب" اختلاف "اليهود" و "النصارى" ] و كتب "المصاحف" [ معتمدا على الجمع الأول ( الصحف[6] )، قال البيهقي : و فيما روينا من الأحاديث المشهورة في ذكر جمع القرآن من الصحابة على عهد "النبي" صلى الله عليه وسلم، ثم ما روينا عن زيد بن ثابت :  كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن[7] . ثم ما روينا في كتاب "السنن" أن "النبي" صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة كذا سورة كذا : دلالة على صحة ما قلناه، إلا أنه كان مثبتا في صدور الرجال، مكتوبا في الرقاع و اللخاف و العسب، و أَمَرَ "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه حين استحرّ القتل بقراء القرآن "يوم اليمامة" بجمعه من مواضعه في صحف، ثم أَمَرَ "عثمان" رضي الله عنه حين خاف الاختلاف في القراءة بتحويله منها إلى مصاحف مع بذل المجهود في معارضة ما كان في الصحف بما كان مثبتا في صدور الرجال، و ذلك كله بمشورة مَن حضره من علماء الصحابة .اهــ[8]  
و قال أبو شامة أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل ( ت : 665 ) : ثم إن "عثمان" رضي الله عنه نسخ من تلك الصحف مصحفا جامعا لها، مرتبة سورة سورة على هذا الترتيب... و عثمان جمع السور على هذا الترتيب في مصحف واحد ناسخا لها من صحف أبي بكر.
و أما ما روي أن عثمان جمع القرآن أيضا من الرقاع كما فعل أبو بكر فرواية لم تثبت، ولم يكن له إلى ذلك حاجة، و قد كُفيه بغيره، فالاعتماد على ما قدمناه أول الباب من حديث صحيح البخاري ( فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بـ "الصحف" ننسخها في "المصاحف"، ثم نردّها إليك. فأرسلت بها "حفصة" إلى "عثمان"، فأمر "زيد بن ثابت" و "عبد الله بن الزبير" و "سعيد بن العاص" و "عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" فنسخوها في "المصاحف" ) ، و إنما ذكرنا ما بعده زيادة كالشرح له، وجمعا لما روي في ذلك، و يمكن أن يقال : إن عثمان طلب إحضار الرقاع ممن هي عنده، و جمع منها، وعارض بما جمعه أبو بكر، وعارض بتلك الرقاع، أو جمع بين النظر في الجميع حالة النسخ، ففعل كل ذلك أو بعضه، استظهارا ودفعا لوهم من يتوهم خلاف الصواب، وسدًّا لباب القالة : إن الصحف غيرت أو زيد فيها ونقص[9]
و بهذا أنكر البيهقي ما يروى أن عثمان كان يطلب البينة ( الشهادة ) على المكتوب[10]، قال : و فيه انقطاع بين مصعب ( بن سعد ) و عثمان رضي الله عنهما، و قد روينا عن زيد بن ثابت أن التأليف كان في زمن "النبي" صلى الله عليه وسلم، و روينا عنه أن الجمع في "الصحف" كان في زمن "أبي بكر" رضي الله عنه، و النسخ في "المصاحف" في زمن "عثمان"، و كان ما يجمعون و ينسخون معلوما لهم، فلم يكن به حاجة إلى مسألة البينة .اهـ[11].
و كلّف بذلك : "زيد بن ثابت" و القرشيين : "عبد الله بن الزبير" و "سعيد بن العاص" و "عبد الرحمن بن الحارث بن هشام"  رضي الله عنهم ، و أرشدهم إلى الرجوع إلى "لغة قريش" عند الاختلاف[12]، و أرسل إلى كل أفق بـ "مصحف[13]"، إلى : الكوفة، و البصرة، و الشام و أبقى نسخة عنده، و قيل سبعة، إلى : مكة، و اليمن، و البحرين، قال الداني أبو عمرو عثمان بن سعيد ( ت : 444 ) : و الأوّل : أصحّ، وعليه الأئمة .اهـ[14] و أمر بما سواه من "القرآن" المكتوب أن يحرق[15]، واجتمع الناس على هذا، و إن كان يروى عن "عبد الله بن مسعود" عدمُ الاستجابة، و دعوتُه الناس إلى عدم حرق مصاحفهم، لكن لم يتابع عليه، بل أنكر عليه و استقرّ أمر الأمة على صنيع "عثمان" رضي الله عنه و رأوا قول ابن مسعود "زلّةَ عالم" سببها ترك النظر في المقاصد و الترجيح بين المصالح و المفسدة الناتجة عن استصحاب رخصة اختلاف القراءة، و يروى عنه الرجوع إلى "الوفاق"، و الصحيح  أن مخالفته إنما هي في الاقتصار على قراءة واحدة أو لأنه رأى قراءته أولى، لا الطعن في جمع زيد و من قرأ به
"و الفرق بين "الصحف" و "المصحف" : أن "الصحف" الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في "عهد أبي بكر" ( رضي الله عنه ) و كانت سورا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلمّا نسخت و رتبّ بعضها إثر بعض صارت مصحفا"[16] ] و معنى هذا أنه طول تلك المدة التي لم تبد حاجةٌ إلى تلك الصحف، بل بقي القراء يبلغون القرآن من صدورهم، و منهم من كتب من صدره مصحفا لنفسه، فلما كان في زمن "عثمان" [ رضي الله عنه ] احتيج إلى تلك "الصحف" لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره – و كتب "عثمان" [ رضي الله عنه ] بضعة "مصاحف"، و بعث بها إلى "الأمصار" لا لتبليغ "القرآن" بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها .اهـ[17]



[1] قال ابن جزي أبو القاسم محمد بن أحمد الغرناطي ( ت : 741 ) : فترتيب السور على ما هو الآن من فعل عثمان و زيد بن ثابت و الذين كتبوا معه المصحف، و قد قيل إنه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ذلك ضعيف تردّه الآثار الواردة في ذلك. اهـ التسهيل لعلوم التنزيل 4
[2] المدخل إلى السنن الكبرى 2 / 504  عن أعلام الحديث 3 / 1856 - 1858
[3] أعلام الحديث 3 / 1855 – 1856 المدخل إلى السنن الكبرى 2 / 499 - 500 ، 501 ، 503 – 504 ط : عوامة
[4] أعلام الحديث 3 / 1858
[5] جمال القراء و كمال الإقراء 1 / 87 – 88 – ط : التراث مكة. و عنه المرشد الوجيز 185 – 186 طـ 
[6] حديث الجمع الثاني أخرجه : البخاري 4987 – 4988 ، واقتصر على الرجوع إلى لسان قريش في موضعين : 3506 ، 4984
[7] الترمذي ( 3954 ) من طريق يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن زيد بن ثابت قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوبى للشام، فقلنا : لأي ذلك يا رسول الله ؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها. وقال : هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث يحيى بن أيوب.
[8] المدخل إلى السن الكبرى 2 / 503 – 504
[9] المرشد الوجيز 75 – 76 طـ : صادر . و في الطبعة المعتمدة ( الذهبي ) 215 – 216 تصحيف و سقط
[10] المدخل إلى السنن الكبرى ( 1066 ) : فعزم على كل من كان عنده شيء من القرآن إلا جاء به، فجاء الناس بما عندهم، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
[11] المدخل إلى السنن الكبرى 2 / 499 – 500
[12] و على هذا كان الجمع الأول تقديم لغة قريش، وروي بسند مقطوع أنهم اختلفوا في "التابوت" و "التابوهبالتاء المفتوحة أو الهاء: قال الزهري أبو شهاب محمد بن مسلم ( ت : 124 ) : فاختلفوا يومئذ في "التابوت" و "التابوه"، فقال القرشيون : "التابوت" ، و قال زيد : "التابوه"
فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال : اكتبوه "التابوت" فإنه نزل بلسان قريش. [ جامع الترمذي حديث: 3104 ]
[13] كما في الحديث
[14] المقنع في معرفة رسوم مصاحف أهل الأمصار 162 – 163 – ط : التدمرية
[15] كما في الحديث
[16] فتح الباري 9 / 18
[17] الأنوار الكاشفة 44 – 45

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق