الرياض المزهرات في شرح البردة والمعلقات 06
وفي نفس الباب "العي" – و نكتفي بالإشارة كما سبق
– تكلم عن "واصل بن
عطاء ( ت : 131 )" إمام المعتزلة – وهو محتف بالمعتزلة – وبه استفتح الكلام عن "اللثغة" بعد أن تكّلم عن "العي" مطلقا[1]
الموضع الثاني :
في باب "البلاغة" افتتحه بـ "البلاغة
عند العجم" : الفرس واليونان و الروم و الهند روايةً
قال : خبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان، وحدثني محمد بن أبان- ولا أدري كاتب من كان- قالا :
قيل للفارسي : ما
البلاغة ؟ ...
وقيل لليوناني :...[2]
ثم قال :
وقيل للهندي : ما "البلاغة" ؟ قال : وضوح الدلالة،
وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.
وقال بعض أهل الهند : جماع البلاغة البصر
بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة[3].
ثم قال : ومن البصر بالحجة،
والمعرفة بمواضع الفرصة، أن تدع الافصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح
أوعر طريقة، وربما كان الإضراب عنها صفحا[4] أبلغ في الدرك، وأحق
بالظفر.
قال : وقال مرة : جماع "البلاغة" التماس حسن الموقع،
والمعرفة بساعات القول[5]، وقلّة الخرق بما
التبس من المعاني أو غَمُض، وبما شَرَد عليك من اللفظ أو تعذر.
ثم قال : وزين ذلك كله،
وبهاؤه وحلاوته وسناؤه، أن تكون الشمائل موزونة، والألفاظ معدلة، واللهجة نقية.
فإن جامع ذلك السن و "السمت[6] والجمال" وطول الصمت، فقد تم
كل التمام، وكمل كل الكمال .اهـ[7]
توقف الجاحظ أولا عند :
"والسمت
والجمال" في التعريف
الأخير[8]
ذكر مخالفة [ أبي عمرو ] سهل بن هارون [ المعتزلي ( ت
: 215 ) ]، وقبل ذكر رأيه وحجته
مهّد بوصف سهل بن هارون، وأن الوصف الذي نفاه موجود فيه،
ولم يمنعه ذلك من عدم اعتباره شرطا في البلاغة
قال : وخالف عليه سهل بن هارون في ذلك، وكان سهل
في نفسه عتيق الوجه،
حسن الشارة، بعيدا من الفدامة[9]، معتدل القامة، مقبول
الصورة، يقضى له بالحكمة قبل الخِبرة، وبرقّة الذهن قبل
المخاطبة، وبدّقة المذهب قبل الامتحان وبالنُبل قبل التكشّف. فلم يمنعه ذلك أن
يقول ما هو الحق عنده وإن أدخل ذلك على حاله النقص .اهـ[10]
ثم بيّن حجّته وهي أن
الناس يستغربون الشيء من غير معدنه، فيستغربون البلاغة ممن يحتقرون مظهره، ومثل بـ
"نوادر كلام الصبيان ومُلح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشد،
وتعجبهم به أكثر[11]"
وعمّم سهل الحكم بأن "الناس موكلون
بتعظيم الغريب، واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من
الرأي والهوى، مثل الذي زهّد الجيران في عالمهم، والأصحاب في الفائدة من صاحبهم.
وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هو
أعم نفعا وأكثر في وجوه العلم تصرفا، وأخف مؤونة وأكثر فائدة[12]"
ثم ذكر مباشرة : انقسام الناس في
الخليفة البليغ والسيد الخطيب[13]
فمن الناس : من يمدح كلامهما لما في نفسه من تعظيم منصبيهما
ومن الناس : من ينتقص كلامهما خوفا أن تكون منزلتهما هي سبب ما
يجد في نفسه من الإعجاب بكلامهما، أي أن يكون مخدوعا فيهما
وختمه : بقاعدة في أحكام
الناس : "فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن.
وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل
الأخلاط عليم، وإلا القويّ المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل
الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر[14]"
وبعد ذكر الجاحظ لكلام سهل ختمه بما يظن معارضا وهو مدحه المأمون [ عبد الله بن هارون الرشيد ( ت :
218 ) ] بـ الجهارة والفخامة مع وصفه
بالبلاغة . وهي راجعة إلى حسن الهيئة
قال : وكان سهل بن هارون شديد الإطناب في وصف المأمون بـ : البلاغة والجهارة،
وبالحلاوة والفخامة، وجودة اللهجة والطلاوة. اهـ[15]
ولما ذكر كلام سهل في المأمون نبّه إلى أنه سيذكر
جملة من الخطباء والبلغاء ويصفهم
قال : وإذا صرنا إلى
ذكر ما يحضرنا من تسمية خطباء بني هاشم، وبلغاء رجال القبائل، قلنا في وصفهما على
حسب حالهما، والفرق الذي بينهما، و لأننا عسى أن نذكر جملة من خطباء الجاهليين
والإسلاميين، والبدويين والحضريين، وبعض ما يحضرنا من صفاتهم وأقدارهم ومقاماتهم،
وبالله التوفيق. اهـ[16]
ثم عاد للتعليق على
"حسن الإشارة" في أحد تعاريف البلاغة عند
الهند "ثم رجع القول بنا إلى ذكر الإشارة".
وروى أبو شمر عن معمّر
أبي الأشعث [ كلاهما من المعنزلة ] خلاف القول الأول في الإشارة والحركة عند
الخطبة، وعند منازعة الرجال ومناقلة الأكفاء" و ذكر مناظرة بين النظام [ أبي إسحاق ] إبراهيم بن سيار [ (
ت : 230 تقريبا ) ]
و أيوب بن جعفر، واضطرار هذا الأخير إلى تحريك يديه فرجع عن قول أبي شمر الذي كان يقول به، ثم علّل الجاحظ سبب مذهب أبي شمر، و ذلك أن أصحابه كانوا لا
يعارضونه[17]
وهؤلاء من متكلمي
المعتزلة، أقحمهم كما أقحم واصل
بن عطاء في الكلام عن العي ( اللثغة
) و توظيفها في الثناء عليه – يتخير كلمات بلا "راء" –، وختم هنا الكلام
بالثناء على أبي شمر معلّلا سب عدم معارضة أصحابه له
قال : وكان شيخا
وقورا، وزمّيتا ركينا، وكان ذا تصرف في العلم، ومذكورا بالفهم والحلم .اهـ[18]
وذلك أنه كان معتزليا
ثم واصل الكلام عن
البلاغة عند الهند[19]
[1] البيان والتبين 1 / 16 – 34 و
هو الموضع الذي ذكر أنه يُكتفى فيه بالإشارة . ولم يخل الكلام عنه – واصل بن عطاء –
من استطراد في استعمال اللفظ لاستخفافه و إن كان غيره أفصح منه في استعمال واصل بن
عطاء كلمات بلا راء مثل القمح والحنطة بدل البر و هو الأفصح فرارا من الراء بسبب
لثغته وذكر من استعمل لفظ "البر" ليدلّ على أنه الأفصح 1 / 17 - 21
[2] البيان والتبين 1 /
76
[3] يستعمل الحجة في الوقت المناسب
[4] ترك الكلام "وربّ سكوت كان فيه بلاغة ... وربّ كلام كان
فيه عتب لعاتب"
[5] لعلّه يريد المكان والزمان المناسبين
[6] حسن الهيئة
[7] البيان والتبين 1 /
88 – 89
[8] بالنسبة لما
سبق من التعاريف، يأتي أنه سيذكر تعاريف أخرى
[9] قال الجوهري :
ومنه "رجل فدم"، أي عيّي ثقيل . اهـ الصحاح 5 / 2001
[10] البيان والتبين 1 / 89
[11] البيان
والتبين 1 / 90
[12] البيان والتبين 1 / 90
[13] البيان والتبين 1
/ 90
[14] البيان
والتبين 1 / 90
[15] البيان
والتبين 1 / 91
[16] البيان
والتبين 1 / 91
[17] البيان والتبين 1
/ 91 – 92
[18] البيان
والتبين 1 / 92
[19] البيان
والتبين 1 / 92
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق