شرح تلقين القاضي عبد الوهاب 16
✍بوعلام محمد بجاوي
سبب الخلاف يرجع إلى ثلاثة أصول :
الأصل الأول : هل الوضوء عبادة معقولة
المعنى
قال أبو الطاهر إبراهيم
بن عبد الصمد ( ت : بعد 536 ) : وسبب الخلاف في هذا أن الطهارة الكبرى والصغرى فيهما شوب من
العبادة والنظافة :
فمن غلب عليهما شوب العبادة : أوجب النية كالصلاة
ومن غلب عليهما حكم النظافة : لم يوجب النية كغسل النجاسة .اهـ[1]
وقال الكاساني أبو بكر
بن مسعود ( ت : 587 ) : الكلام في النية راجع
إلى أصل، وهو أن معنى القربة والعبادة غير لازم في الوضوء عندنا، وعنده لازم،
ولهذا صح من الكافر عندنا خلافا له .اهـ[2]
فمن قال إنه عبادة محضة لا يعلم القصد منها : أوجب فيه
النية كسائر العبادات
ومن قال إنه معقول المعنى و أن المعنى الذي لأجله شرع هو
التنظيف : قال : متى حصل التنظيف أجزأ و إن لم يكن مقصودا كإزالة النجاسة، فإن المعنى هو إتلاف النجاسة ورفعها،
فمتى حصل أجزأ بفعل من المكلف أو بغير فعله كمن أصابه مطر فأزال النجاسة عن ثوبه
والأقرب أنه عبادة محضة بدليل :
1 / موجبه و هو الحدث فلا علاقة له بالأعضاء المغسولة و
الممسوحة، فما علاقة غسل الوجه و مسح الرأس بالخارج من السبيلين
2 / لو كان معقول المعنى لجاز بغير الماء المطلق، وإن كان من
الفقهاء من يشترط الماء المطلق لإزالة النجاسة
3 / لو كان المعنى هو النظافة لم يجب الوضوء على من كان طاهر
أعضاء الوضوء
الأصل الثاني : هل الوضوء عبادة مستقلة أو
تابعة للصلاة
فإذا كان عبادة تابعة لم يشترط له النية كسائر شروط الصلاة
كستر العورة و إزالة النجاسة
و إذا كان عبادة مستقلة اشترط له النية كسائر العبادات
و يرجح كونه عبادة مستقلة ما ورد فيه من الأجر و الثواب
قال ابن رجب : و أما الطهارة،
فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور، وهو يرجع إلى أن الطهارة للصلاة هل هي عبادة
مستقلة، أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة،
وستر العورة ؟
فمن لم يشترط لها النية، جعلها كسائر شروط
الصلاة
ومن اشترط لها النية، جعلها عبادة مستقلة،
فإذا كانت عبادة في نفسها، لم تصحّ بدون النية، و هذا قول جمهور العلماء، ويدلّ
على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الوضوء يكفر
الذنوب والخطايا، و أن من توضأ كما أمر كان كفارة لذنوبه، وهذا يدل على أن الوضوء
المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها، حيث رتّب عليه تكفير الذنوب، والوضوء
الخالي من النية لا يكفر شيئا من الذنوب بالاتفاق، فلا يكون مأمورا به، ولا تصح به
الصلاة، ولهذا لم يَرِد في شيء من بقية شرائط الصلاة، كإزالة النجاسة، وستر العورة
ما ورد في الوضوء من الثواب .اهـ[3]
وفيه نظر من وجوه :
الثواب الوارد في الوضوء لا يمنع من أن يكون عبادة تابعة
لغيره، لكن يستدل به على أنه عبادة، و عليه تشترط له النية من هذا الباب، وهو
الأصل الأول
عدم اشتراط النية في إزالة النجاسة وستر العورة؛ لأن
المعنى معقول
إزالة النجاسة وستر العورة لا يختصان بالصلاة بل على كل
حال لا بد من التنزه عن النجاسات والمبادرة إلى إزالتها وكذا ستر العورة
الأصل الثالث : هل القصد متعين للوضوء
الشرعي
إذا لم يكن للفعل جهة غير العبادة الواحدة فلا معنى
لاشتراط النية، كقراءة القرآن والذكر فالمراد به عبادة مستحبة
قال القرافي أبو العباس أحمد
بن إدريس ( ت : 684 ) : القربات التي لا لبس
فيها لا تحتاج إلى نية كـ : الإيمان بالله تعالى وتعظيمه وإجلاله والخوف من عذابه
والرجاء لثوابه والتوكل على كرمه والحياء من جلاله والمحبه لجماله والمهابة من
سلطانه وكذلك التسبيح والتهليل وقراءة القرآن وسائر الأذكار فإنها متميزة لجنابه
سبحانه وتعالى وكذلك النية منصرفة إلى الله تعالى بصورتها فلا جرم لم تفتقر النية
إلى نية أخرى .اهـ[4]
وكذلك الوضوء عند من لم يشترط النية فلا تفعل أفعال
الوضوء إلا بقصد الوضوء الشرعي
قال القرافي : هذه الحكمة هي سبب
اختلاف العلماء في اشتراط النية في رمضان و الوضوء ونحوهما فزفر [
بن الهذيل ( ت : 158 ) ] يقول في رمضان وأبو حنيفة يقول
في الوضوء أنهما متعينان بصورتهما لله تعالى وليس لهما رتب فلا حاجة فيهما للنية
ومالك والشافعي – رحمهما الله تعالى – يقولان الإمساك في رمضان قد يكون
لعدم الغذاء والمفطرات، والوضوء قد يكون للتعليم و التجديد على سبيل الندب أو لرفع
الحدث على سبيل الوجوب فاحتاجا إلى النية لتميز العبادة عما ليس بعبادة وامتياز
الفرض عن الندب في الوضوء .اهـ[5]
أدلة الجمهور
الدليل الأول : حديث الأعمال بالنيات
و هو دليل الشافعي مع
القياس على التيمم[6]
قال ابن القصار أبو الحسن علي بن عمر ( ت : 397 ) : وفي هذا الحديث دليلان :
أحدهما : قوله
"الأعمال بالنيات"، فيحتمل أحد أمرين :
إما وجود الأعمال بالنيات، ولا توجد بغير
نية : وهذا غير مراد لأنها توجد في المشاهدات بغير نية.
أو يكون أراد بالأعمال (المقرب بها من
المجزئة) بالنية، فهذا هو المراد، وظاهر قوله "الأعمال بالنيات"، أي : عمادها بذلك، كما يقال: الطير بجناحيه،
والأمير بجيشه، أي عماد ذلك بهذا.
والدلالة الثانية :
قوله "وإنما
لكل امرئ ما نوى"، فدلّ على أن ما لم ينوه لا يكون له .اهـ[7]
والأقرب – على
القول بالإضمار – هو الوجود الشرعي، لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا
والأقرب
عدم الإضمار، وسبق الكلام عن دلالة الحديث
فالحديث أصل
في اشتراط النية في قبول العمل، والمخالف لا ينكر هذا الأصل، لكن يرى العبادة في
الوضوء تبعا، فإذا بطلت العبادة بعدم النية لم يبطل الوضوء، أي إذا بطل كون الوضوء
عبادة لعدم النية لا يبطل كونه طهارة ترفع الحدث، كم يأني في الأجوبة على الحديث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق