القرآن و العلم الحديث : الأرض 05
✍بوعلام محمد بجاوي
المطلب
الثالث : العلم الوافد
مقدمة :
الإسلام هو الاستسلام للوحي، و أن يكون
هو الميزان لما تنتجه عقول البشر و الأمم مهما بلغت في درجات العلم و المعرفة، لكن
– كما سبق في المطلبين السابقين – يغتر طائفة من المسلمين بهذه العلوم العقلية
المبنية على تقديس العقل، و ازدراء ما لا يأتي من طريقه – و هو الاتباع - و لو كان
للوحي من الرب الخالق، و العجب أن الكثير يقلدون و يتبعون عقول الرجال، و يزعمون
أنهم يتبعون العقل نفسه، فهلا اتبعوا الوحي من الخالق ؟ فإن قالوا الوحي كلام يجري
عليه التأويل، فكذلك أئمتهم يعبرون عن نتاج عقولهم بالكلام الذي يجري عليه التأويل
فيفوّتون على البشر أعظم نعمة، بل أصل
النعم، فالقصد من البحث و النظر الوصول إلى الحق والصواب، فإذا حصل بالإخبار من العليم
الخبير } إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا {[ النساء : 35 ] } و من أصدق من الله حديثا { [ النساء : 87 ] ، } و من أصدق من الله قيلا { [ النساء : 122 ] كان كمن ورث مالا لم يسع
و يتعب في كسبه } يا أيها الناس قد
جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله
ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون { [ يونس : 57 – 58 ]، } وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا
خسارا { [ الإسراء : 82 ]، لكنّ المغرورين بعقولهم لا
يقبلون إلا الطرق العقلية المعقدة طريقا للحق والصواب، حتى يتميزوا عن عوام الناس،
مما اضطر بعض أهل الوحي إلى النزول عند غرورهم و مخاطبتهم بالأدلة و الحجج العقلية
ردّا و استدلالا.
قال ابن
تيمية أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ( ت : 728 ) : و بعض الناس يكون الطريق كلما كان أدقّ و
أخفى و أكثر مقدمات و أطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور
الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، و مثل هذا
قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية و غيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم
المطلوب متوقفا عليها مطلقا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور المسلمين و
عمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب
معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات، و هذا يسلك معه هذه الطريق .اهـ[1]
و هو خلاف ما كان عليه السلف الصالح
قال ابن
رجب أبو الفرج
عبد الرحمن بن أحمد ( ت : 795 ) : و كذلك التصدي لردّ كلام أهل البدع
بجنس كلامهم من الأقيسة الكلامية و أدلة العقول، يكرهه الإمام أحمد [ بن محمد بن حنبل ( ت : 241
) ] و أئمة الحديث كـ : يحيى [ بن سعيد ] القطان ( ت : 198 ) و [
عبد الرحمن ] ابن مهدي ( ت : 198 ) و غيرهم، و إنما يردون عليهم بنصوص
الكتاب و السنة، و كلام سلف الأمة إن كان موجودا، و إلا رأوا السكوت أسلم
و كان [ عبد الله ] ابن المبارك ( ت : 181 ) أو غيره من الأئمة يقول : ليس أهل السنة عندنا
من ردّ على أهل الأهواء، بل من سكت عنهم. ذكر ذلك كراهية لما يشغل عن العلم الذي
جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم و عن العمل بمقتضاه، فإن فيه كفاية، و من لم
يكفه ذلك فلا كفاه الله .اهـ[2]
و لأن غرورهم يمنعهم من موافقة الوحي حتى
لا يكونوا كباقي الناس. لهذا يقابلون العلم بالوحي أو الدين على أنهما نقيضان لا
يجتمعان، و أن الدين ليس بعلم، كما يأتي في المطلب التالي "العلم الحديث"
العلوم الوافدة في القديم والحديث :
أولا : في القديم
أعزّ
الله الإسلام و دخل الناس فيه أفواجا و أُمما من أصحاب العقائد و الفلاسفة، ومنهم
من لم يتخلّص من العقائد التي نشأ عليها، ومنهم المكره[3] ، لهذا الفرق التي ظهرت في الأمة – كلامية أو
صوفية – لها أصل في الأمم السابقة، فظهر في قرون الإسلام الأولى قبل أفول قرن
الصحابة إنكار القدر
مسلم 1 - ( 8 ) : عن يحيى بن يعمر، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد
الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين - أو معتمرين - فقلنا: لو
لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في
القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي
أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت : أبا عبد
الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم
يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم،
وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه
ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم ظهر
إنكار الصفات لله تعالى، و أخبار الغيب غير الموافقة للعقل
ابتدأه "الجعد
بن درهم" – قتل بسبب مقالته بالعراق يوم النحر، و
قصته مشهورة[4] – و شَهَّره تلميذه "الجهم بن صفوان ( ت : 128 )"،
قال فيه الذهبي أبو عبد الله محمد بن أحمد ( ت : 748 ) : الضال المبتدع، رأس
الجهمية، هلك في زمان صغار
التابعين، وما علمته روى شيئا، لكنه زرع شرا عظيما .اهـ[5]
قال الدارمي أبو سعيد عثمان بن سعيد ( ت : 280 ) : فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله وإلى كتابه
وكلامه سرا وجهرا، محتملا لما ناله من أذاهم صابرا عليه حتى أظهره الله وأعزّه
وأنزل عليه نصره، فضرب وجوه العرب والعجم بالسيوف، حتى ذلّوا ودانوا ودخلوا
الإسلام طوعا وكرها، واستقاموا حياته وبعد وفاته، لا يجترئ كافر ولا منافق متعوذ
بالإسلام أن يظهر ما في نفسه من الكفر وإنكار النبوة؛ فرقا من السيف وتخوفا من
الافتضاح، بل كانوا يتقلبون مع المسلمين بغم، ويعيشون فيهم على رغم دهرا من الدهر وزمانا من الزمان،
وكان أول من أظهر شيئا منه بعد كفار قريش : "الجعد بن درهم" بالبصرة،
و "جهم [ بن صفوان " بخراسان اقتداء
بكفار قريش، فقتل الله جهما شر قتلة.
وأما "الجعد" فأخذه خالد بن عبد الله القسري ( ت : 126 )، فذبحه ذبحا بواسط في يوم أضحى على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، لا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه .اهـ[6]
[1] الرد على المنطقيين ص
: 255
[2] الرد على من
اتبع غير المذاهب الأربعة 2 / 637 – 638 – مجموع
[3] أسلم للدنيا
أو ليكيد للإسلام، لا أن المسلمين أجبروه على الإسلام، و لا يقدح هذا في ديننا،
كما لا يعيب الرجل الصالح بغض الفساق له، و يأتي كلام للدارمي عثمان بن سعيد في
هذا المعنى
[4] ميزان الاعتدال 1 / 399 – ترجمة : 1482
[5] ميزان الاعتدال 1 / 426 – ترجمة : 1584
[6] الرد على الجهمية ص : 30 – 31 تحقيق:
الشوامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق