شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم 08
المسألة الثانية : وقوع الخلاف في القرون الأولى الفاضلة
لكن الاختلاف واقع زمن القرون الفاضلة، الصحابة و التابعين و أتباعهم ؟
غالبُ الاختلاف في غير الواضحات أي المسائل الـموكَلة إلى اجتهاد و استنباط العلماء، و القليل الذي فيه نصّ له أسباب معروفة ذكرها العلماء، و ممّن جمعها ابن جزي أبو القاسم محمد بن أحمد الغرناطي ( ت : 741 ) في آخر كتابه في "الأصول"، أوصلها إلى ستة عشر سببا[1] – على خلاف العادة في كتب الأصول[2] – و هو "تقريب الوصول إلى علم الأصول" و لـ ابن تيمية أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ( ت : 728 ) كتاب مشهور: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" و من الأعذار خفاء النص أو ظن المعارض الأقوى أو عدم ثبوت صحة النقل .
و قد يكون مخالفا للكتاب و السنة المشهورة، لكنه عن "تأويل خاطئ"، لا يوافق عليه من وقع فيه و لا يُهدر حقه بسببه، فلا يمنع فضل المخطئ من تخطئته، و لا يمنع خطؤه من الاعتراف له بالفضل و التقدم
قال الشاطبي إبراهيم بن موسى ( ت : 790 ) : و في هذا الموطن حذر من "زلّة العالم"، فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها...و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذى اجتهد فيه، و الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها، و هو و إن كان على غير قصدٍ و لا تعمدٍ، وصاحبه معذور و مأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله [ تقليد العامة لزلّته ] فيه خطر عظيم ...
إذا ثبت هذا، فلا بدّ من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل :
منها :
[ 1 ] أن "زلّة العالم" لا يصح اعتمادها من جه، و لا الأخذ بها تقليدا له، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، و لذلك عدّت "زلّة"، و إلا فلو كانت معتدا بها، لم يجعل لها هذه الرتبة، و لا نسب إلى صاحبها الزلل فيها .
[ 2 ] كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، و لا أن يشنّع عليه بها، و لا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين .اهـ[3]
و بهذا يجاب عن "الروافض" الذين يستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمار بن ياسر [ رضي الله عنه ] : تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار [ خ / 447 ، 2812 من حديث أبي سعيد الخدري – م / 2916 من حديث أم سلمة ]
قال القاضي عياض بن موسى اليحصبي ( ت : 544 ) : و قوله: "تقتله الفئة الباغية": فيه حجة بيّنة للقول أنّ الحق مع "علي" [ رضي الله عنه ] و حزبه، و أن عذر الآخر بـ "الاجتهاد"، و أصل "البغي": الحسد، ثم استعمل في الظلم، و لهذا ( هكذا ،و لعل الأقرب : "وعلى هذا" ) حمل الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص [ رضي الله عنه ] يوم قتله و غيره، لكن "معاوية" [ رضي الله عنه ] تأوّله على الطلب، قال : نحن الفئة الباغية لدم "عثمان"[ رضي الله عنه ]، أي الطالبة له.
و "البُغاء" بالضم ممدود : الطلب.
و قد كان قبل ذلك قال : إنما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه هذه الصفة، ثم رجع إلى هذا الوجه .اهـ[4]
و قال ابن حجر أبو الفضل أحمد بن علي ( ت : 852 ) : فإن قيل كان قتله بصفين و هو مع عليّ [ رضي الله عنه ]، و الذين قتلوه مع "معاوية" [ ضي الله عنه ] و كان معه جماعة من "الصحابة" [ رضي الله عنهم ]، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار ؟
فالجواب : أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، و هم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها و هو طاعة الإمام، و كذلك كان "عمار"[ رضي الله عنه ] يدعوهم إلى طاعة "عليّ" [ رضي الله عنه ] و هو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، و كانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنّهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم، و قال ابن بطال [ أبو الحسن علي بن خلف ( ت : 449 ) ] – تبعا لـ المهلب [ أبي القاسم بن أحمد بن أسيد ( ت : 433 أو بعدها ) ] – إنما يصحّ هذا في "الخوارج" الذين بعث إليهم "علي" [ رضي الله عنه ] عمارا [ رضي الله عنه ] يدعوهم إلى الجماعة، و لا يصحّ في أحد من "الصحابة" [ رضي الله عنهم ]، و تابعه على هذا الكلام جماعة من الشراح، و فيه نظر من أوجه ... اهـ[5] و ذكرها
هكذا قال "ابن بطال" في موضع، و الظاهر أنه لم ينسبه إلى "المهلب" :
قال : قال "المهلب" : و في هذا الحديث بيان ما اختلف فيه من قصة عمار .
و قوله "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" إنما يصحّ ذلك في الخوارج الذين بعث إليهم عليّ [ رضي الله عنه ] "عمارا" [ رضي الله عنه ] ليدعوهم إلى الجماعة، و ليس يصح في أحد من "الصحابة" [ رضي الله عنهم ] ، لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتأوّل عليهم إلا أفضل التأويل، لأنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى الله عليهم، و شهد لهم بالفضل، فقال تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] قال المفسرون : هم أصحاب رسول الله، و قد صحّ أن "عمارا" [ رضي الله عنه ] بعثه "عليّ" [ رضي الله عنه ] إلى "الخوارج" يدعوهم إلى الجماعة التي فيها العصمة بشهادة الرسول "لا تجتمع أمتي على ضلال[6]" .اهـ[7]
و قد يكون "ابن حجر" اعتمد على "شرح المهلب"، و "ابن بطال" كثير الاعتماد عليه
و في موضع آخر حمله "ابن بطال" على " كفار مكة"
قال : و قوله "ويح عمار" فهي كلمة لا يراد بها في هذا الموضع وقوع المكروه بـ "عمار" [ رضي الله عنه ] ، و لكن المراد بها المدح لـ "عمار" [ رضي الله عنه ] على صبره و شدّته في ذات الله، كما تقول العرب للشاعر إذا أحسن : قاتله الله ما أشعره، غير مريدين إيقاع المكروه به .اهـ[8]
و قال في "يدعوهم إلى الله" : فيريد – و الله أعلم – أهل مكة الذين أخرجوه من دياره و عذّبوه في ذات الله لدعائه لهم إلى الله، و لا يمكن أن يتأوّل هذا الحديث في المسلمين البتة، لأنهم قد دخلوا دعوة الله، و إنما يدعى إلى الله من كان خارجا من الإسلام. و قوله "و يدعونه إلى النار" دليل أيضا على ذلك، لأن المشركين أهل مكة إنما فتنوه و طالبوه أن يرجع إلى دينهم، فهو النار.
فإن قيل : إن فتنة "عمار" [ رضي الله عنه ] قد كانت بمكة في أوّل الإسلام، و إنما قال : يدعوهم بلفظ المستقبل، و هذا لفظ الماضي ؟ قيل : العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضي إذا عرف المعنى، كما تخبر بالماضي عن المستقبل، فقوله "يدعوهم إلى الله" بمعنى دعاهم إلى الله، لأن محنة "عمار" [ رضي الله عنه ] كانت بمكة مشهورة، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذكرها لما طابقت شدته في نقله لبنتين شدته في صبره بمكة على عذاب الله، فضيلة لـ "عمار" [ رضي الله عنه ]، و تنبيها على ثباته، و قوته في أمر الله تعالى .اهـ[9]
[1] تقريب الوصول إلى علم الأطول ص : 168 - 171 - ط : الجزائر
[2] قال ابن جزي : الباب العاشر : في أسباب الاختلاف بين المجتهدين : و هي ستة عشر بالاستقراء، على أن هذا الباب انفردنا بذكره لعظم فائدته، و لم يذكره أهل الأصول في كتبهم . اهـ ص : 168
[3] الموافقات 5 / 132 ،135 - 136
[4] إكمال المعلم بفوائد مسلم 8 / 459
[5] فتح الباري 1 / 542
[6] ينظر : موافقة الخُبر الخَبر في تخريج أحاديث المختصر 1 / 105 - 115
[7] شرح ابن بطال على البخاري 2 / 98 – 99
[8] شرح ابن بطال على البخاري 5 / 27
[9] شرح ابن بطال على البخاري 5 / 27
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق