القرآن والعلم الحديث: "الأرض" 02
✍بوعلام محمد بجاوي
المطلب الثاني : بين الوحي والعقل
العقل : شرط في التكاليف، وقيام الحجة على الناس، لأنه به يفهم الخطاب، و به علم صدق النبي و أنه { وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى } [ النجم 3 – 4 ]، لا خلاف في هذا، إنما الخلاف - وهو خلاف غير معتبر - بين الفرق والملل في قبول الخبر عمن ثبت بالعقل صدقه ونبوته مقابل "العقل"
فمنهم من يستصحب إعمال العقل : فلا يقبل من الأخبار إلا ما وافق العقل مطلقا أو في باب الإلهيات، لأن العقل أصل النقل ، به عُرف صحة النقل فلا يقدم الفرع على الأصل، و الخبر المروي في مقابل "العقل" – عندهم – يستحيل ثبوته عن المعصوم إذا كان "ظني" الثبوت أو يكون له تفسير و "تأويل" لا يتعارض و "العقل" يُحمَل عليه – و هذا هو "التأويل" –، أو توُكل معرفته إلى الله بعد نفي المعنى الموضوع له لغة، و هذا هو "التفويض"، تفويض المعنى المراد للمعصوم مع نفي المعنى الذي وضع اللفظ له
ومن العلماء من يتصدى لرد "التأويل" و على "المأوّلين" فيفرح به أهل الوحي، وهو في حقيقة أمره يدعو إلى "التفويض" أي أنه موافق في إبطال المعنى الذي وضع اللفظ له، يقع هذا لبعض الحنابلة في ردّهم على "الأشاعرة"
وهناك مذهب آخر، يرد على "المأولين" و "المفوضين" لـمّا رأى وضوح النصوص المصادمة لـ "العقل" و أنه لا يمكن تأويلها، قال : المخاطب بها عوامّ الناس لأنه لا يمكنهم فهم الأمور على حقائقها، وهذا مذهب ابن رشد الحفيد أبي الوليد محمد بن أحمد (ت 595 )
ومنهم – وهم أهل الوحيين الكتاب والسنة – من يستصحب حكم العقل : فيقبل الأخبار وإن كانت خلاف عقله، فمادام العقل صدّق الـمُخْبِـرَ في الجملة، فمن ضرورة هذا التصديقِ المجمل التصديقُ المفصّل في جميع ما أخبر به، فيستحيل عندهم معارضة "العقل" لـ "النقل"، ولو حصل فلقصور "العقل" البشري، مع أن من الأخبار ما تكون خلاف "العقل"، لكنها تفتقر إلا شروط الصحة، لأن الأخبار عندهم لا بد أن "يتصل" سندها بنقل "العدل" "الضابط" عن مثله، وأن ينتفي عنها "الشذوذ" - و هو التفرد القادح ( لا يتحمله الراوي ) – و "العلة" – و هي المخالفة لمن هو أولى منه حفظا أو عددا – وهي شروط مبنية على الاحتياط
وتقديم "العقل" على "النقل" إبطال لـ "الرسالة" و "الوحي"، لأن المراد منها الاستسلام للكامل الـمُنَزِّل لها، فإذا جاز ردّها بـ "العقل" فلماذا لا يُوكَل الناس إلى عقولهم ابتداء، و يوكل من لا عقل له إلى من له عقل أو يعذرون و لا يطالبون، و لماذا لم تقم الحجة على ذوي العقول و الحِجا إذا لم تبلغهم الرسالة
ولماذا مخاطبة المكلف بما ظاهره ونصه – إذا استثنينا التفسيرات البعيدة التي تذكر في تبرير التأويل – كفر، ما الحكمة في ذلك؟
قال ابن تيمية أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ( ت : 728 ) : قول القائل : إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع و "العقل" ، أو "النقل" و"العقل" ، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما :
أن يجمع بينهما : وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين
وإما أن يردا جميعا :
وإما أن يقدم السمع :
وهو محال، لأن "العقل" أصل "النقل"، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في "العقل" الذي هو أصل "النقل"، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم "النقل" قدحا في "النقل" و "العقل" جميعا، فوجب تقديم "العقل"، ثم "النقل":
إما أن "يتأول"
وإما أن "يفوّض"
وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما.
وهذا الكلام قد جعله الرازي [ أبو عبد الله محمد بن عمر الملقب بـ : فخر الدين ( ت : 660 ) ] وأتباعه قانونا كُلِّيًّا فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام، وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها، وظن هؤلاء أن العقل يعارضها .اهـ[1]
إلى أن قال : يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه .اهـ[2]
فأصل هذا الباب تعارض الهوى مع الشرع، وغيره ما هو إلا تبرير لمخالفة الشرع
والهوى كان في أول الأمر في صفات الله تعالى : وكان المبرر مخالفته للدليل العقلي و هو "دليل الأعراض"
واليوم الهوى في "الاكتشافات العلمية" المتعلقة ببدء الكون و حقيقته التي يزعمها الملحدون – يوصف أكثرهم بأنهم ملحدون –، وكثير من "الاكتشافات العلمية" مصادمة للوحي، فيتبناها المنهزمون و يتأولون "الوحي" حتى لا يعارضها، بل و يستدلون من "الوحي" بما يزعمون أنه سبق "العلم الحديث"، و يجعلون ذلك من "الإعجاز العلمي"
و يغفلون – إضافة إلى تحريفهم الكلم عن مواضعه – كما غفل أسلافهم في باب "الصفات الإلهية" أنهم يفتحون الباب واسعا لمن يريد الطعن في "الوحي"، فالتأويلات التي يذكرونها و إن كانت تنفع مع المؤمنين بالوحي فإنها لا تصمد أمام من يريد الطعن في "الوحي" بإقرار هؤلاء المنهزمين بما يخالف الوحي، وقد يكون استسلام المسلمين المنهزمين اليوم لـ "الاكتشافات المزعومة" سببا لردة الخلف واللاحق
ففي "الصفات الإلهية" : آيات الصفات كثيرة كـ : "الاستواء على العرش" و "المجيء يوم القيامة" و "نظر المؤمنين لربهم يوم القيامة" وهي وغيرها بمجموعها تخالف "الدليل العقلي"، و القول بأنها مجازات و لها تأويلات لا ينفع مع من يريد الطعن في "الوحي" بها، لأنها واضحة الدلالة، و الكثرة تمنع المجاز
وفي "الاكتشافات العلمية" : آيات كثيرة تخالف ما يزعمه "علماء الفلك"، وقد وُجد من يطعن في الوحي بها، و يردّ على المتأولين بأنه تحريف، وأن "الوحي" واضح بين، فبدل أن يردّوا "الاكتشافات المزعومة" لمخالفتها للشرع راحوا يحرّفون الوحي لتوافقها، من ذلك :
خلق النجوم قبل الأرض : هذا ما يقوله "العلم" واعترض به على "القرآن" وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما دفع المسلمين المنهزمين– بَدَلَ أن يردّوا هذا القول لمخالفته لـ "الوحي" – إلى أن "يتأولوا"الوحي" ليوافق "العلم المزعوم"
والقرآن صريح في أن الله خلق الأرض ثم السماء ثم زين السماء بالمصابيح وهي النجوم والكواكب
قال تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 29 ]
و قال { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } [ فصلت 9 - 12 ]
ثم قام من قام من المسلمين المنهزمين للذب عن القرآن والإسلام بجهل، ففسّر الآية بكلام غير مفهوم، ثم استدلّ بأية آخرى، وهي قوله تعالى { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) } [ النازعات 27 - 30 ]
الشاهد في قوله تعالى { بعد ذلك } والآية صريحة في أن المقصود دُحُوّ الأرض لا خلق الأرض و لا يلزم من تَقَدُّم الأخصّ الذي هو الدّحوّ تقدم الأعمّ الذي هو الخلق، أي أن الله خلق الأرض ثم السماوات ثم دحا الأرض، هذا هو التفسير المشهور، و التفسير الآخر المقصود "مع ذلك دحاها"، والتفسيران مبنيان على تقدم خلق الأرض على السماوات
قال الطبري أبو جعفر محمد بن جرير ( ت : 310 ) : وقوله { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] : اختلف أهل التأويل في معنى قوله { بعد ذلك }
فقال بعضهم : دحيت الأرض من بعد خلق السماء...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : "والأرض مع ذلك دحاها"، وقالوا : الأرض خلقت ودحيت قبل السماء، وذلك أن الله قال { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات } قالوا : فأخبر الله، أنه سوّى السماوات بعد أن خلق ما في الأرض جميعا، قالوا فإذا كان ذلك كذلك، فلا وجه لقوله { والأرض بعد ذلك دحاها } إلا ما ذكرنا، من أنه مع ذلك دحاها .اهـ[3]
واختار التفسير الأول
قال : قال : والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض، وقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها، وأرسى جبالها، أشبه لما دل عليه ظاهر التنزيل، لأنه جل ثناؤه قال { والأرض بعد ذلك دحاها } والمعروف من معنى "بعد" أنه خلاف معنى "قبل"، وليس في دحو الله الأرض بعد تسويته السماوات السبع، وإغطاشه ليلها، وإخراجه ضحاها، ما يوجب أن تكون الأرض خلقت بعد خلق السماوات، لأن الدحو إنما هو البسط في كلام العرب، والمد .اهـ[4]
[1] درء تعارض العقل والنقل 1 / 4 – 5
[2] درء تعارض العقل والنقل 1 / 6
[3] تفسير الطبري 24 / 92 ، 93 – ط : هجر
[4] تفسير الطبري 24 / 94 – ط : هجر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق