القرآن والعلم الحديث "الأرض" 20
✍بوعلام محمد بجاوي
وقال في "مقدمة تهافت الفلاسفة":
أما بعد: فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد
الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات واستحقروا شرائع الدين من
وظائف الصلوات والتوقي عن المحظورات واستهانوا بتعبدات الشرع وحُدوده ولم يقفوا
عند توقيفاته وحدوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيها
رهطا ]
يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهو بالآخرة هم كافرون
[
[
الأعراف : 45 ] ولا مستند لكفرهم:
غيرُ تقليد سماعيّ: إلفيّ كتقليد اليهود والنصارى إذ
جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وأولادهم وعليه درج آباؤهم وأجدادهم
وغيرُ بحث نظري صادر عن التعثر بأذيال الشبه الصارفة عن صواب الصواب
والانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب: كما اتفق لطوائف من النظار في البحث عن
العقائد والآراء من أهل البدع والأهواء[1]
وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة كـ
"سقراط" و
"بقراط"
و"أفلاطون"
و"أرسطوطاليس"
وأمثالهم وإطناب طوائف من متبعيهم وضلاّلهم في:
وصف عقولهم وحسن أصولهم
ودقة علومهم: الهندسية والمنطقية والطبيعية والإلهية
واستبدادهم – لفرط الذكاء والفطنة –
باستخراج تلك الأمور الخفية،
وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة
فضلهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها
نواميس مؤلفة وحيل مزخرفة
[ النتيجة ]: فلما قرع
ذلك سمعهم، ووافق ما حكى من عقائدهم طبعَهم تجمّلوا:
باعتقاد الكفر تحيزا إلى غُمار الفضلاء
بزعمهم، وانخراطا في سلكهم
وترفعا عن مسايرة الجماهير والدهماء
واستنكافا من القناعة بأديان الآباء ظنا بأن
إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال[2]
وغفلةً منهم عن أن الانتقال من تقليد إلى
تقليد خُرْق وخبال، فأيّة رتبة في عالم الله تعالى أخسّ من رتبة من يتجمل بترك الحق
المعتقد تقليدا بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقا دون أن يقبله خُبْرا وتحقيقا،
والبلّه من العوام بمعزل عن فضيحة هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه
بذوي الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء، والعمى أقرب إلى السلامة
من بصيرة حولاء .اهـ[3]
وسبق في مقدمة هذا المطلب افتتان الناس
بالعلوم العقلية، والقائم بها في ذلك الزمان فلاسفة اليونان
قال الخطابي : وقفت على مقالك أخي وَلِيَك الله
بالحسنى، وما وصفته من أمرنا ناحيتك، وما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض
الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنّة إليها واغترارهم بها أو اعتذارهم في ذلك
بأن الكلام وقاية للسنة، وجُنّة لها يُذَبُّ به عنها، ويذاد بسلاحه عن حرمها،
وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم، وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم؛ لأن موقفك
بين أن تُسّلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله، وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فتردّه
وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك.
أما القبول: فلأن الدّين يمنعك منه، ودلائل
الكتاب والسنة تحول بينك وبينه.
وأما الرد والمقابلة: فلأنهم
يطالبونك بأدلة العقول. ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور...
واعلم أخي – أدام الله سعادتك – أن هذه
الفتنة قد عمّت اليوم، وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت، فلا يكاد يسلم من رهج
غبارها إلا من عصمه الله تعالى ...
ثم إني تدبرت هذا الشأن، فوجدت عظم السبب
فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسوّل لكل من أحسّ من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء
وذهن، ويوهمه أنه إن رضي في عمله ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها
كان أُسوة للعامة، وَعُدّ واحدًا من الجمهور والكافة، فإنه قد ضلّ فهمه، واضمحل
لفظه وذهنه، فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر،
ليبينوا بذلك من طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمّن يرونه دونهم في الفهم
والذكاء، فاختدعهم بهذه المحجة حتى استزلهّم عن واضح المحجة، وأورطهم في مشبهات
تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها، فلم يخلصوا منها إلى شفا نفس ولا قبلوها بيقين
علم .اهـ[4]
قال ابن تيمية أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (
ت : 728 ) : وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أدقّ وأخفى وأكثر مقدمات وأطول
كان أنفع له؛ لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل
قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق
الكلامية المنطقية وغيرها؛ لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم المطلوب متوقفا عليها
مطلقا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور المسلمين وعمومهم أو ما
يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور
الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات، و هذا يسلك معه هذه
الطريق .اهـ[5]
قال ابن
قتيبة : قد رضي
عوضا من الله ومما عنده بأن يقال : فلان لطيف وفلان دقيق النظر، يذهب إلى أن لطف
النظر قد أخرجه عن جملة الناس وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم الرعاع والغثاء والغثر[6] وهو -
لعمر الله - بهذه الصفات أولى، وهي به أليق، لأنه جهل وظن أن قد علم، فهاتان
جهالتان، ولأن هؤلاء[7] جهلوا
وعلموا أنهم يجهلون.
ولو أن هذا المعجب بنفسه، الزاري على
الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياه الله بنور الهدى وثلج اليقين، ولكنه طال
عليه
أن ينظر في علم الكتاب
وفي أخبار الرسول صلى الله
عليه وسلم وصحابته،
وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها
فنصب لذلك وعاداه. وانحرف عنه إلى علم قد
سلمه ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول
بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله : الكون والفساد، وسمع الكيان، والأسماء
المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة، راعه ما سمع، وظن
أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعها لم يحل منها بطائل، إنما هو
الجوهر يقوم بنفسه، والعرض لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم،
والكلام أربعة: أمر، وخبر، واستخبار، ورغبة؛ ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي:
الأمر، والاستخبار، والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب وهو الخبر، والآن حد
الزمانين، مع هذيان كثير، والخير ينقسم إلى تسعة آلاف وكذا وكذا مائة من الوجوه،
فإذا أراد المتكلم أن يستعمل بعض تلك الوجوه في كلامه كانت وبالا على لفظه، وقيدا
للسانه، وعيا في المحافل، وعقلة عند المتناظرين.
ولقد بلغني أن قوما من أصحاب الكلام سألوا
محمد بن الجهم البرمكي أن يذكر لهم مسألة من حد المنطق حسنة لطيفة، فقال لهم: ما
معنى قول الحكيم "أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة" ؟ فسألوه
التأويل؟
فقال لهم: مثل هذا رجل قال "إني صانع لنفسي كنا"
فوقعت فكرته على السقف، ثم انحدر فعلم أن السقف لا يكون إلا على حائط، وأن الحائط
لا يقوم إلا على أس، وأن الأس لا يقوم إلا على أصل، ثم ابتدأ في العمل بالأصل، ثم
بالأس، ثم بالحائط، ثم بالسقف؛ فكان ابتداء تفكره آخر عمله وآخر عمله بدء فكرته؛
فأية منفعة في هذه المسألة؟ وهل يجهل أحد هذا حتى يحتاج إلى إخراجه بهذه الألفاظ
الهائلة، وهكذا جميع ما في هذا الكتاب .اهـ[8]
وقال: ولو أن مؤلف حد المنطق بلغ زماننا هذا
حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو لعد نفسه من البكم، أو
يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته
لأيقن أن للعرب الحكمةَ وفصل الخطاب .اهـ[9]
القرآن والعلم الحديث "الأرض" 21
القرآن والعلم الحديث "الأرض" 01
[1] هم بين مقلد
وناظر، لكن مخدوع بالشبه التي يجعلها مقدمات مسلمات يبني عليها
[2] هذه حقيقة من يزعم أنه يتبع العقل، حقيقته مقلد لمن يزعم أنه يتكلم بالعقل
لا بالوحي
[3] تهافت الفلاسفة ص: 9 – 11
[4] الغنية عن
الكلام ص 5 - 8 : صون
المنطق والكلام عن فنّي المنطق والكلام نقل
رسالة الخطابي كاملة و عنه طبعت
[5] الرد على
المنطقيين ص: 299
[6] قال الجواليقي في "شرح أدب الكاتب":
الرعاع : رذال
الناس وضعفاؤهم، وهم الذين إذا فزعوا طاروا، ويقال للنعامة رعاعة كأنها أبدا
منخوبة فزعة
والغثاء : ما
حمله السيل من القماش شبه به السفلة؛ لأنه لا ينتفع به ...
والغثر : جمع
أغثر، وهو الأحمق وعن الأصمعي الغثراء من الناس الغوغاء وأصله من الغثر وهي الغمرة
ويقال للضبع غثراء للونها وهي أحمق الدواب فشبه الحمقى من الناس بها .اهـ شرح
الجواليقي ص 23 ويجمعها سفلة الناس
الذين لا نفع يرجى فيهم، فلا عقل ولا علم
[7] الرعاع والغثاء والغثر
[8] أدب الكاتب ص: 10 – 11
[9] أدب الكاتب ص: 11 – 13
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق