القرآن والعلم الحديث : "الأرض" 14
✍بوعلام محمد بجاوي
وقال ابن العربي محمد بن عبد الله المعافري ( ت : 543 ) : فإن قيل فما عذر علمائكم في الِإفراط بالتعلق بأدلة العقول
دون الشرع المنقول في معرفة الرب، واستوغلوا في ذلك ؟
قلنا : لم يكن هذا لأنه خفي عليهم أن كتاب
الله مفتاح المعارف ومعدن الأدلة، لقد علموا أنه ليس إلى غيره سبيل ولا بعده دليل
ولا وراءه للمعرفة معرس ولا مقيل، وإنما أرادوا وجهين :
أحدهما : أن الأدلة العقلية وقعت في كتاب الله
مختصرة بالفصاحة، مشارا إليها بالبلاغة، مذكورا في مساقها الأصول، دون التوابع
والمتعلقات من الفروع، فكمل العلماء ذلك الاختصار، وعبّروا عن تلك الإشارة بتتمة
البيان، واستوفوا الفروع والمتعلقات بالإيراد.
الثاني : أنهم أرادوا أن يبصروا الملاحدة، ويعرفوا
المبتدعة أن مجرد العقول التي يدعونها لأنفسهم، ويعتقدون أنها معيارهم، لا حظ لهم
فيها، وزادوا ألفاظا حرروها بينهم، وساقوها في سبيلهم، قصدا للتقريب ومشاركة لهم
في ذلك من منازعتهم، حتى يتبين لهم أنه كيف دارت الحال معهم من كلامهم بمنقول أو
معقول، فإنهم فيه على غير تحصيل، و ذلك يتبين بتتبع أدلتهم في الفصول.
فقد علمتم أن الله سبحانه قد أوعب القول في
حدث العالم، ونبه باختلاف الأعراض عليها في الانتقالات، وكذلك كرر القول في دلالة التوحيد بالتمانع في قوله }
ولعلا بعضهم على بعض {
[ المؤمنون: 91 ] وقوله }
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا {
[ الأنبياء : 22 ]
وهذان الدليلان همان اللذان بسط العلماء
ومهدوا بما يتعلق بهما من فصول وتوابع، ثم تكلموا مع المخالفين بمجرد الأدلة
العقلية غير هذين ليرى الملحد أنه محجوج بكل طريق... وقد غلا بعض الناس فقال: ليس
من كلام الناس شيء إلا وهو في القرآن، وتكلف سرد ذلك، فما ظنك بأدلة العقول وما
سطره العلماء، إنه بذلك لأجد وفيه لأوحد .اهـ[1]
وألّف الخطابي أبو
سليمان حمد بن محمد ( ت : 388 ) "الغنية عن الكلام"،
وذمّ فيه هذه الطريقة لكنه يصححها، و نحوه السيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر ( ت : 911 ) في
"صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام" و نقل فيه
كتاب الخطابي[2]،
وللخطابي أيضا "شعار الدين"
ذكر فيه نحوا مما ذكر في "الغنية"
قال ابن تيمية في شرح كلام الخطابي : والخطابي ذكر أن هذه
الطريقة متعبة مخوفة، فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك، وهذا كما ذكره الأشعري[3] وغيره، ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة[4]، وإنما ذموها لكونها بدعة، أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز
سالكها، أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها.
وهكذا ذكر الخطابي في كتاب "شعار الدين[5]" ما يتضمن هذا المعنى، ولهذا كان من لم يعلم بطلان
هذه الطريقة أو اعتقد صحتها، قد يقول ببعض موجباتها، كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله، ما يوافق موجبها، وقد أنكره عليه أئمة السلف
والعلم .اهـ[6]
والخطابي
يوافق ابن مجاهد أن هذا الدليل مأخوذ
عن الفلاسفة، وأن الذي ألجأهم إليه عدم إيمانهم بالنبوة و الأنبياء[7]
وهذا حال السابقين و المتأدبين مع القرآن من اللاحقين :
القرآن نبه على الدليل العقلي - وهو دليل الأعراض - في مواضع كثيرة
و من المتأخرين من لم يجد مانعا من التصريح بحقيقة مذاهب المتكلمين
قال الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر ( ت : 606 ) الملقب بالفخر – في ذكر الأسئلة والإشكالات
على قوله تعالى في القرآن } هدى
للمتقين { : السؤال الثالث : كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته
لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى
وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن
القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق ؟
الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في
بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في
العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله
تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات
النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم .اهـ[8]
وهذا
الكفر البواح من "الفخر"
يلزم جميع المتكلمين، لأنه ليس في القرآن ما يشير أو يشهد لهذا الدليل
ومنهم
من توسط، لـمـّا عظم عليه أن يقول قول "الفخر"
قال إلكيا الهراسي علي بن محمد ( ت : 504 ) : وفي القرآن حجاج، وإن
لم يكن فيه الغلبة والفلج، غير أن العامي يكتفي له .اهـ[9]
قال ابن تيمية : وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي [ الجويني ] ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في
ذلك ولا يوجبونها بل :
إما يحرموها أو يكرهوها
أو يبيحوها وغيرها ويصرحون بأن معرفة الله
تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها ثم هم قسمان :
قسم يسوغها ويسوغ غيرها ويعدها طريقا من
الطرق فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم.
والقسم الثاني : يذمونها ويعيبونها ويعيبون
سلوكها وينهون عنها إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم .اهـ[10]
وأجاب السبكي أبو نصر عبد الوهاب بن علي ( ت : 771 ) عن
خفاء دلالة هذه الآيات مع كثرتها على مقتضى دليل الأعراض : بأن منهج القرآن فيما
لا تدركه عقول العوام الإلغاز
قال : و المدّعي لما علم أن
القرآن طافح بهذه الأشياء وبهذا الإشارات قال هذه الأشياء دلالتها كالإلغاز
أو ما علم المغرور أن أسرار العقائد التي لا
تحملها عقول العوام لا تأتي إلا كذلك وأين في القرآن ما ينفي الجسمية إلا على
سبيل الإلغاز وهل تفتخر الأذهان إلا في استنباط الخفيات .اهـ[11]
بل منهج القرآن ألا يكلف الناس إدراك ما لا تدركه
عقولهم، بل منعهم أن يخوضوا فيما لا تدركه عقولهم كما في الروح } يسألونك عن الروح قل الروح من أمري ربي { ثم قال
بعدها مباشرة } وما أوتيتم من العلم إلا قليلا { [ الإسراء : 85 ] ، و كيف يستقيم الإلغاز حيث يخفى
المعنى عن الناس، فلو كان دليل الإعراض صحيحا و كان مما يخفى على أكثر الناس الذين
لم يطّلعوا على علوم الفلاسفة لجاءت الآيات وفقه، لكنها تعارضه مع كثرتها، أي أن
القرآن جمع بين الإلغاز في الدليل و المدلول، فكيف للناس أن يحملوا هذه الآيات على
دليل يعسر عليهم، كيف لهم أن يفهموا أن الكلام والنداء والاستواء والعلو و رؤية
الله بالأبصار وغيرها ممتنع عن الله، و الآيات في هذه الصفات كثيرة، مع أنهم لا
يعرفون لها معنى غير المعنى الذي ينفيه دليل الأعراض، ويأتي بيانه وإنما أعجَلَنا السبكي إلى هذا
القدر، و يُشكر على الإقرار بأن آيات مقتضى دليل الإعراض من جملة الألغاز التي
ينزه عنها الكلام الذي قصد به الهداية والبيان
والسبكي
استدل بمحل الخلاف بينه و بين من سماه مدعيا، فكأنه قال دفع كون آيات نفي التجسيم
ألغاز هو آيات التجسيم نفسها "وأين في القرآن
ما ينفي الجسمية إلا على سبيل الإلغاز"، و في كلامه ما سبق ذكره
من أن الافتتان بعلم الكلام سببه الخفاء والتعقيد الذي يتطلب الاستنباط ويميز أولي
الألباب عن الهمج الرعاء "وهل تفتخر الأذهان
إلا في استنباط الخفيات"
وتفرع عن هذا مسألة إيجاب النظر أو القصد إلى النظر على المكلف، و يتفرع عنها صحة إيمان المتبع للوحي، وبعبارة أخرى هل يحصل اليقين بغير الدليل العقلي و لو كان الوحي المنزل من الله ؟ و إذا لم يحصل له بالوحي، هل يجزئه القدر الذي حصل له من الوحي؟
القرآن والعلم الحديث : "الأرض" 15
القرآن والعلم الحديث : "الأرض" 01
[1] قانون التأويل
ص : 176 - 178
[2] صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام ص : 137 و ما بعدها و
نقل ابن تيمية شطرها الأول في بيان تلبيس الجهمية 2
/ 144 و ما بعدها و درء تعارض العقل و النقل 7 / 278 و ما بعدها
يتخللها شرحه
[3] يريد الكلام الذي سبق نقله عن ابن مجاهد، لأن ابن
تيمية ينسب "رسالة إلى أهل الثغر"
إلى الأشعري
[4] بل صححوها
[5] نقله ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية 2
/ 142 – 143 وذكر بعده كلامه في
"الغنية"
[6] درء تعارض العقل والنقل 7 / 294
[7] الغنية عن الكلام بواسطة صون المنطق ص :
140 – 141 و بيان تلبيس الجهمية 2 / 153
[8] تفسير الرازي (مفاتيح الغيب) 2 / 268 - 269
[9] بواسطة درء تعارض العقل والنقل 7
/ 360
[10] بيان تلبيس
الجهمية 2 / 140
[11] طبقات الشافعية الكبرى 9 / 90
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق