القرآن والعلم الحديث : "الأرض" 13
✍بوعلام محمد بجاوي
دليل الأعراض والوحي :
عند
المتكلمين :
إنكار بعض متقدمي المتكلمين لدليل الأعراض ودعوتهم إلى التمسك بالوحي لا أنهم
يبطلونه أو الوحي يعارضه بل يشهد له، و إنما لصعوبته و وعورته أو لأنه ليس منهج
السلف، بل منهج الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالرسل
قال ابن مجاهد أبو عبد الله محمد بن
أحمد ( ت : في حدود 370 ) : و كان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من
القدرية، وأهل البدع المنحرفين
عن الرسل - عليهم السلام - من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب
كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على
وجودها والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها، والمعرفة بمخالفتها للجواهر في كونها لا
تقوم بنفسها، ولا يجوز ذلك على شيء منها، والمعرفة بأنها لا تبقى والمعرفة باختلاف
أجناسها، وأنه لا يصح انتقالها من محالها، والمعرفة بأن ما لا ينقل منها فحكمه في
الحدث حكمها[1]،
ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك حتى يمكن
الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها؛ لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفاً، وفي
كل مرتبة مما ذكرنا فرق تخالف فيها، ويطول الكلام معهم عليها .اهـ[2]
قوله "أوضح دلالة" يتضمن تصحيحه
و قال : وإذا كان ذلك على ما وصفنا بَان لكم - أرشدكم الله - أن
طريق الاستدلال بأخبارهم - عليهم السلام - على سائر ما دُعينا إلى معرفته مما لا
يدرك بالحواس أوضح من الاستدلال بالأعراض، إذ كانت أقرب إلى
البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن تبعهم من أهل الأهواء، واغتروا بها لبعدها عن الشبه
كما ذكرنا، وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه، ولذلك ما منع الله رسله من الاعتماد عليه لغموض ذلك
على كثير ممن أمروا بدعائهم وكلفوا - عليهم السلام - إلزامهم فرضه .اهـ[3]
وقال : فأخلد سلفنا رضي
الله عنهم ومن تبعهم من الخلف الصالح بعدما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم
فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم[4] بما نبههم عليه من الأدلة إلى
التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفته منها، والعدول عن كل
ما خالفهما لثبوت نبوته عليه السلام عندهم، ونبههم بصدقه فيما أخبرهم به عن ربهم
لما وثقته الدلالة لهم فيه، وكفتهم العبرة بما ذكرناه له وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن تبعهم من القدرية وغيرهم من
أهل البدع من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في
ذلك عنه، وإنما صار من أثبت حدث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم .اهـ[5]
و يكتفون بالصورة المختصرة[6]،
دلالة التغير على الحدوث، وليس المقصود بالتغير الزيادة أي أن يكون معطلا عن صفة قبل
أن يتّصف بها كالكلام عند الإنسان، بل كل الأفعال تعتبر تغيرا، فسماع الأصوات عند
وجودها تغير؛ لأنه يلزم منه أن يكون المستمع سامعا لذلك الصوت بعد أن لم يكن سامعا
له، فينزه القديم عنه لأنه يلزم منه قيام حادث به
قال ابن مجاهد : و أنه [صلى
الله عليه وسلم] دعا جماعتهم إلى الله، و نبّههم
على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور و الهيئات، و غير ذلك من اختلاف اللغات، و كشف
لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم و في غيرهم بما يقتضي وجوده، ويدلّ على إرادته
و تدبيره حيث قال عزّ وجلّ } وفي أنفسكم أفلا
تبصرون { [ الذاريات 21 ] فنبههم عزّ وجلّ بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك، و
شرح ذلك بقوله عزّ وجلّ } وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) { [
المؤمنون 12 – 14 ] و هذا من أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان و
وجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما، و ذلك أن تغيره
يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره، و كونه قديما ينفي تلك الحال، فإذا حصل متغيرا
بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها دلّ ذلك على حدوثها و حدوث الهيئة
التي كان عليها قبل حدوثها، إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها، و ذلك أن القديم لا يجوز
عدمه، و إذا كان هذا على ما قلنا وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهيا إلى
هيئات محدثة لم تكن الأجسام قبلها موجودة، بل كانت قبلها محدثة، و يدلّ ترتيب ذلك على
محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق فيتم من غير مُرَتِّبٍ له و
لا قاصدٍ إلى ما وجد منه فيها .اهـ[7]
ويستدلون له أيضا بتفكر إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى } وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى
كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي
هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) {
[ الأنعام : 75 – 79 ]
قال ابن رشد الجد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد ( ت : 520 ) : فاستدل إبراهيم – عليه الصلاة والسلام - بما عاين من حركة الكواكب والشمس والقمر على أنها محدثة؛ لأن الحركة والسكون من علامات المحدثات. ثم علم أن كل محدث فلا بد له من محدث وهو الله رب العالمين. وهذا وجه الاستدلال وحقيقته قصه الله تبارك وتعالى علينا تنبيها لنا وإرشادا إلى ما يجب علينا. وهذا- في القرآن كثير .اهـ[8]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق