النبوات وفضائل نبينا محمد صلى الله عليه و سلم 18
✍بوعلام محمد بجاوي
قال القاضي عياض : فإن
قلت إذا تقرر من دليل القرآن وصحيح الأثر وإجماع الأمة كونه أكرم البشر وأفضل
الأنبياء فما معنى الأحاديث الواردة بنهيه عن التفضيل...[1]
فاعلم
أن للعلماء في هذه الأحاديث تأويلات
أحدها : أن نهيه عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم
فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف وأن من فضل بلا علم فقد كذب وكذلك قوله لا
أقول إن أحدا أفضل منه لا يقتضي تفضيله هو وإنما هو في الظاهر كفّ عن التفضيل
الوجه
الثاني : أنه
قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع ونفي التكبر والعجب، وهذا لا يسلم
من الاعتراض
الوجه
الثالث : ألا
يفضل بينهم تفضيلا يؤدي إلى تنقص بعضهم أو الغض منه لا سيما في جهة يونس عليه
السلام إذ أخبر الله عنه بما أخبر لئلا يقع في نفس من لا يعلم منه بذلك غضاضة
وانحطاط من رتبته الرفيعة إذ قال تعالى عنه } إذ أبق إلى الفلك المشحون { [ الصافات : 140 ] } إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر
عليه { [ الأنبياء : 87 ] فربما
يخيل لمن لا علم عنده حطيطته بذلك
الوجه
الرابع : منع
التفضيل في حق النبوة والرسالة فإن الأنبياء فيها على حد واحد إذ هي شيء واحد لا
يتفاضل، وإنما التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب والألطاف، وأما
النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها ولذلك منهم رسل،
ومنهم أولو عزم من الرسل، ومنهم من رفع مكانا عليا، ومنهم من أوتي الحكم صبيا
وأوتي بعضهم الزبور وبعضهم البينات، ومنهم من كلّم الله، ورفع بعضهم درجات قال
الله تعالى } ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض { الآية [ الإسراء : 55 ] وقال } تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض { الآية [ البقرة : 253 ]
قال بعض أهل العلم والتفضيل
المراد لهم هنا في الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال :
[
الحال الأولى ] :
أن تكون آيته ومعجزاته أبهر وأشهر
[
الحال الثانية ] :
أو تكون أمته أزكى وأكثر
[
الحال الثالثة ] :
أو يكون في ذاته أفضل وأظهر وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من كرامته و اختصاصه
من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه، وقد روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن
للنبوة أثقالا، وإن يونس تفسخ منها تفسخ الربع[2]" فحفظ صلى الله عليه وسلم موضع الفتنة من أوهام من
يسبق إليه بسببها جرح في نبوته أو قدح في اصطفائه وحط في رتبته، و وهن في عصمته
شفقة منه صلى الله عليه وسلم على أمته، وقد يتوجه على هذا الترتيب وجه خامس وهو أن
يكون "أنا"
راجعا إلى القائل نفسه أي لا يظن أحد وإن بلغ من الذكاء والعصمة والطهارة ما بلغ
أنه خير من يونس لأجل ما حكى الله عنه فإن درجة النبوة أفضل وأعلى وإن تلك الأقدار
لم تحطه عنها حبة خردل ولا أدنى .اهـ[3]
من
الفوائد العرضية للحديث :
جواز مدح الفاضل لنفسه للحاجة :
قال ابن عبد البر ابن عبد البر أبو عمر يوسف بن عبد الله ( ت : 463 ) – في كلامه على حديث الباب – : وفيه جواز مدح الرجل الفاضل الجليل لنفسه، ونفيه عن نفسه ما يعيبه بالحق الذي هو فيه وعليه إذا دفعت إلى ذلك ضرورة أو معنى يوجب ذلك، فلا بأس بذلك، وقد قال الله عزّ وجلّ حاكيا عن يوسف صلى الله عليه وسلم أنه قال } إني حفيظ عليم { [ يوسف : 55 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع وأنا سيد ولد آدم ولا فخر. ومثل هذا كثير في السنن وعن علماء السلف، لا ينكر ذلك إلا من لا علم له بآثار من مضى .اهـ[4]
وقال ابن بطال أبو
الحسن علي بن خلف ( ت : 449 ) : وقوله: تمت "إن
أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" فيه من الفقه أن للإنسان أن يخبر عن نفسه بما فيه من الفضل لضرورة
تدعوه إلى ذلك، لأن كلامه صلى الله عليه وسلم بذلك وقع في حال عتاب لأصحابه،
ولم يرد به الفخر، كقوله : تمت "أنا
سيد ولد آدم ولا فخر" .اهـ[5]
وقال الخطابي : وقوله
"ولا فخر" معناه إني إنما أقول هذا الكلام معتدا بالنعمة، لا
فخرا واستكبارا، فقلّ من فَخَر إلا تزيّد في فخره.
يقول: إن هذا القول ليس مني على
سبيل الفخر الذي يدخله التزيد والكبر .اهـ[6]
و قال عياض : وفيه
جواز التحدث بنعمة الله على عبده إذا أمن بها العجب والفخر، وخلص من الكبر، كما
قال عليه السلام "ولا فخر" في هذا الحديث. وهو هنا في حق النبي واجب تبليغ
لما يجب أن تعتقده أمته، وتدين لله به في حقه وطاعته .اهـ[7]
و يتفرع عنه : جواز مدح الفاضل بما فيه حيّا كان أو ميتا
للحاجة
قال ابن بطال – في كلامه عن النهي عن المدح – : وكذلك تأول العلماء في قوله عليه
السلام: "احثوا التراب في وجه المداحين" [ م / 68 ، 69 - ( 3002 ) ] المراد به : المداحون الناس في
وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم. ولذلك قال عمر بن الخطاب : المدح هو الذبح. ولم يرد به من مدح رجلا بما فيه، فقد مُدح رسول الله عليه
السلام في الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث في وجه المداحين ولا أمر بذلك كقول أبي
طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... تثمال
اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح
العباس وحسان له في كثير من شعره، وكعب بن زهير، وقد مدح رسول الله عليه السلام الأنصار
فقال : "إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون
عند الفزع[8]"، ومثل هذا قوله عليه السلام
: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، قالوا: عبد
الله، فإنما أنا عبد الله ورسوله" [ خ / 3445 ، 6830 ] أي : لا تصفوني بما ليس لي من
الصفات تلتمسون بذلك مدحى، كما وصفت النصارى عيسى لما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه
ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا. فأما وصفه بما فضله الله به وشرفه فحق واجب على كل
من بعثه الله إليه من خلقه، وذلك كوصفه عليه السلام بما وصفها به فقال "أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه" .اهـ[9]
ومن حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نصفه بالوصف الذي ذكر في القرآن والسنة اعترافا بفضله ومكانته ونشره في الناس دون غلو كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام، فهو سيد الأولين والآخرين يوم القيامة، وهو غير وصفه في حضرته و مناداته، و إن وقع مدح في حضرته، فلم يكن هذا شأن الصحابة، لأن المدح لا فائدة ترجى منه، لهذا نهي عنه
[1] ذكرها
[2] حلية الأولياء 4 / 50 حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا محمد بن عثمان
بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن عامر بن زرارة، ثنا عبد الله بن الأجلح، عن محمد بن
إسحاق، حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: سمعت ابن منبه يقول : إن للنبوة أثقالا
ومئونة لا يحملها إلا القوي، وإن يونس بن متى كان عبدا صالحا فلما حملت عليه
النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع عند الحمل، فرفضها من يده فخرج هاربا. فقال الله
لنبيه صلى الله عليه وسلم } فاصبر
كما صبر أولو العزم من الرسل { [ الأحقاف : 35 ] وقال } فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم { [ القلم : 48 ]
الآية
[3] الشفا ونحوه – مختصرا –
في إكمال
المعلم 7 / 353 – 354
، 237 – 238
مشارق الأنوار 1/ 349
[4] التمهيد 20 / 39
[5] شرح البخاري 1 / 73
[6] أعلام الحديث 1 / 337
[7] إكمال المعلم 7 / 237
[8] جمع الجوامع للسيوطي 19 / 133
– حديث 85/ 184 : عن أنس
قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فتسامعت به المهاجرون
والأنصار، فغدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر حديثا طويلا فيه : وقال
للأنصار: إنكم ما علمت لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع. العسكرى في
الأمثال
[9] شرح البخاري 9 / 254
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق