الرياض المزهرات في شرح البردة والمعلقات 18
✍بوعلام محمد بجاوي
ب/ الاعتراض على الكتاب والسنة والشرع
وهذا مقرون
بالجهل والكبر، فلا يعترض على الشرع إلا بالكبر أو الجهل:
بالكبر :
يغترون بالنظريات
والعلوم العقلية العصرية، ويظنون أنه مما يميّز العالم والأديب عن العامي الجاهل
والغثاء، ويحتقرون الوحي لأنه ـ عندهم ـ تقليد، والتقليد تعطيل العقل فيستوون باتباعه مع
العامة، فحيث تخالف النظريات العصرية القرآن طعنوا بها فيه
بالجهل :
بالجهل
بالشرع :
فقد ينكرون
ما يظنونه من الشرع وليس كذلك؛ ليسوا أهلا لفهم النصوص ولا لتمييز الثابت عن
الرسول صلى الله
عليه وسلم من غيره
والسبب
ازدراء علوم الشريعة، والاشتغال بعلوم العصر التي هي أراء ونظريات تنطلق من العداء
للدين والتحرر من كل فضيلة وفطرة سليمة، أما علوم العصر الحقيقية التجريبية فهم من
أبعد الناس عن فهمها
أو
بالجهل بزيف وكذب علوم الزمان :
ففي كل
زمان ترتفع نظريات تسمى علما أي قطعيات علمية، تعرض في ألفاظ وعبارات محدثة
مستغلقة، كما هو الحال عند المتكلمين : الجوهر و العرض، و في هذا الزمان ما أكثر
هذه الألفاظ التي يحرص المثقفون – زعموا - على استعمالها مع علمهم باستغلاق معناها
على من يسمعهم، لأن غرضهم لا البيان، وإنما إظهار تميزهم على الغثاء، وهي عبارات
فارغة، لا تحمل معنى غير المعنى البديهي الذي لا يحتاج إلى كسب أو نظر، وإنما يحصل
للإنسان اضطرارا،
ولا يعلمون
أن جهلهم جهل من يجهل أنه جاهل، لأن هذه العلوم :
إما بداهة
لا تحتاج إلى بيان : كالقياس الأرسطي
وإما
ضلالات متعمدة الغرض منها نشر الإلحاد والفساد أو متهيّأة
قال – بعد
كلامه السابق - : ثم يعترض :
على كتاب
الله بالطعن : وهو لا يعرف معناه
وعلى حديث
رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالتكذيب :
وهو لا يدري من نقله .اهـ[1]
الطعن في
كتاب الله : ولهم في ذلك طرق
دعوى اللغو :
لابن قتيبة كتاب
"تأويل مشكل القرآن" وذكر في مقدمته الطعن في
القرآن بالحشو واللغو، واكتفى بمثالين :
الأول : ] وترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات
الشمال [ [ الكهف : 17 ]
قال : وقد
قال قوم بقصور العلم وسوء النظر في قوله تعالى ] وترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم
ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال [ [ الكهف : 17 ] : وما في
هذا الكلام من الفائدة ؟ وما في الشمس إذا مالت بالغداة والعشي عن الكهف من الخبر ؟
ونحن نقول :
وأي شيء أولى بأن يكون فائدة من هذا الخبر ؟ وأي معنى ألطف مما أودع الله هذا
الكلام ؟
وإنما أراد
عزّ وجلّ
: أن
يعرفنا لطفه للفِتية، وحفظه إياهم في المهجع، واختياره لهم أصلح المواضع للرقود،
فأعلمنا أنه بوأهم كهفا في مقنأة[2] الجبل،
مستقبلا بنات نعش، فالشمس تزور عنه وتستدبره طالعة، وجارية، وغاربة. ولا تدخل
عليهم فتؤذيهم بحرها وتلفحهم بسمومها، وتغير ألوانهم، وتبلي ثيابهم. وأنهم كانوا
في فجوة من الكهف- أي متسع منه- ينالهم فيه نسيم الريح وبردها، وينفي عنهم غمة
الغار وكربه .اهـ[3]
المثال الآخر : قوله
تعالى ] وبئر معطلة
وقصر مشيد [ [ الحج : 45 ]
قال – بعد
كلامه السابق مباشرة – : وليس جهلهم بما في هذه الآية من لطيف المعنى، بأعجب من
هذا جهلهم بمعنى قوله ] وبئر معطلة وقصر مشيد [ [ الحج : 45 ] حتى أبدأوا في التعجب منه وأعادوا، حتى ضربه
بعض المجّان[4] لبارد شعره
مثلا.
وهل شيء
أبلغ في العبرة والعظة من هذه الآية ؟ لأنه أراد : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم
قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتو،
وأبادهم بالمعصية، فيروا من تلك الآثار بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرا
كانت لشرب أهلها قد عطل رشاؤها، وغار معينها، وقصرا بناه ملكه بالشيد[5] قد خلا من
السكن، وتداعى بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله وبأسه، مثل الذي نزل
بهم.
ونحوه قوله
] فأصبحوا لا
يرى إلا مساكنهم [ [ الأحقاف : 25 ]
ولم يزل
الصالحون يعتبرون بمثل هذا، ويذكرونه في خطبهم ومقاماتهم: فكان سليمان صلى الله
عليه وسلم، إذا مر
بخراب قال : يا خرب الخربين أين
أهلك
الأولون ؟
وقال: أبو
بكر رضي الله
عنه في بعض
خطبه : أين بانو المدائن ومحصنوها بالحوائط ؟ أين مشيدو القصور، وعامروها ؟ أين
جاعلوا العجب فيها لمن بعدهم ؟ تلك منازلهم خالية، وهذه منازلهم في القبور خاوية،
هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ؟ .اهـ[6]
وذكر أبياتا
للأسود بن يعفر، وقال : وهذه الشعراء تبكي الديار، وتصف الآثار، وإنما تسمعهم
يذكرون دمنا وأوتادا، وأثافي ورمادا، فكيف لم يعجبوا من تذكرهم أهل الديار بمثل
هذه الآثار، وعجبوا من ذكر الله، سبحانه أحسن ما يذكر منها وأولاه بالصفة، وأبلغه
في الموعظة .اهـ[7]
أصحاب هذا
الاعتراض في كل زمان يظهرون باعتراضهم بهذه الدعوى جهلهم
دعوى
التناقض :
لأنهم لا
يعلمون سعة كلام العرب، فقد يطلقون العام ويريدون الخاص، فالعام في موضع والخاص في
موضع آخر من التناقض عندهم، ولا ينتبهون إلى الفرق بين الآيتين اللتين يزعمون
تعارضهما
ومن
الأمثلة المشهورة : قوله تعالى ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن
سبع سموات [ [ البقرة : 29 ] مع قوله تعالى ] أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع
سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها
ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ [ النازعات: 27-33 ]
قالوا في الآية الأولى خلق الأرض
كان أولا – وهو الحق – وفي الأخرى خلق السماء سبق خلق الأرض، والآية صريحة في أن
المتأخر عن خلق السماء هو دحو الأرض لا خلق الأرض
قال الطبري أبو
جعفر محمد بن جرير ( ت : 310 ) : وقوله } والأرض بعد
ذلك دحاها { [ النازعات : 30 ] : اختلف
أهل التأويل في معنى قوله } بعد ذلك {
فقال
بعضهم : دحيت
الأرض من بعد خلق السماء...
وقال
آخرون : بل معنى
ذلك : والأرض مع ذلك دحاها"، وقالوا : الأرض خلقت ودحيت قبل السماء،
وذلك أن الله قال } هو الذي خلق
لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات {
قالوا : فأخبر الله، أنه سوّى السماوات بعد أن خلق ما في الأرض جميعا، قالوا فإذا
كان ذلك كذلك، فلا وجه لقوله } والأرض بعد
ذلك دحاها {
إلا ما ذكرنا، من أنه مع ذلك دحاها .اهـ[8]
واختار
التفسير الأول
قال : قال :
والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض، وقدّر فيها أقواتها،
ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج
منها ماءها ومرعاها، وأرسى جبالها، أشبه لما دلّ عليه ظاهر التنزيل؛ لأنه – جل ثناؤه – قال } والأرض بعد
ذلك دحاها {
والمعروف من معنى "بعد" أنه خلاف معنى "قبل"،
وليس في دحو الله الأرض بعد تسويته السماوات السبع، وإغطاشه ليلها، وإخراجه ضحاها،
ما يوجب أن تكون الأرض خلقت بعد خلق السماوات، لأن الدحو
إنما هو البسط في كلام العرب، والمد .اهـ[9]
الرياض المزهرات في شرح البردة والمعلقات 19
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق