النبوات وفضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 26
✍بوعلام محمد بجاوي
وقيل المعنى :
أن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وحي،
والوحي لا يشتبه ولا يُتخيّل أنها نوع من السحر، ومعجزات غيره من الأنبياء تشتبه
بالسحر
قال
المازري أبو
عبد الله محمد بن علي ( ت : 536 ) : أشار صلى
الله عليه وسلم بقوله "وحيا"
إلى معنى بسطه العلماء، فقالوا : فإن معجزته صلى
الله عليه وسلم يبعد أن يتخيل فيها أنها ضرب من
السحر، وإنما هو كلام معجز ولا يقدر السحرة أن يأتوا لذلك بما يتخيل تشبيهاً به
كما فعل في عصا موسى وغيرها، لأنهم أتوا بعصيّ وحبال يتخيل أنها تسعى فيحتاج
التمييز بينهما وبين ما أتى به موسى عليه السلام إلى نظر، والنظر عرضة الزلل فيخطئ الناظر فيعتقد أن
ذلك سواء .اهـ[1]
وقيل المعنى :
جنس معجزته غير جنس معجزة الأنبياء، القرآن يخاطب القلوب والروح، ومعجزات الأنبياء
غيره تخاطب الحس
قال
النووي :
اختلف فيه على أقوال : أحدها : أن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله
من الأنبياء فآمن به البشر وأما معجزتي العظيمة الظاهرة فهي القرآن الذي لم يعط
أحد مثله فلهذا قال أنا أكثرهم تابعا .اهـ[2]
قال
يحيى بن هبيرة ( ت : 560 ) : في هذا الحديث من الفقه تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان قبله من الأنبياء كل منهم
بعث إلى أمة الغالب عليهم الحسن ونظر الصور والأشكال؛ فكانت الآيات عندهم لا تؤثر
إلا فيما يشهد له الحس؛ كانفجار الماء من الحجر، وانفلاق البحر، وطوفان نوح وغير
ذلك، وكانت فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منّ الله به عليه، أن جعل لدينه
روحًا ولذة، بحيث تشهد العقول لها – لا الإحساس – من النور البيّن والحكمة
العظيمة؛ ولذلك كان أكثر تابعًا يوم القيامة؛ لأن شاهده ما يأخذ بالقلوب ويقصر
النفوس على الحق .اهـ[3]
قال
ابن الجوزي
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ( ت : 597 ) : الإشارة بالآيات إلى الحسيّات
كناقة صالح وعصا موسى وإحياء الموتى، فهذه معجزات ترى بعين الحس، ومعجزة نبينا
الكبرى هي القرآن الفصيح، فهي تشاهد بعين العقل .اهـ[4]
والأقرب
ما سبق، وهو بقاء معجزته صلى الله عليه وسلم محفوظة
ظاهرة
قال
القاضي عياض بن موسى اليحصبي ( ت : 544 ) : وذهب غير واحد من العلماء في تأويل هذا الحديث
وظهور معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى معنى آخر من ظهورها بكونها وحيا
وكلاما لا يمكن التخيل فيه ولا التحيّل عليه ولا التشبيه، فإن غيرها من معجزات
الرسل قد رام المعاندون لها بأشياء طمعوا في التخبيل بها على الضعفاء كإلقاء
السحرة حبالهم وعصيهم وشبه هذا مما يخيله الساحر أو يتحيّل فيه، والقرآن كلام ليس
للحيلة ولا للسحر في التخييل فيه عمل فكان من هذا الوجه عندهم أظهر من غيره من
المعجزات كما لا يتم لشاعر ولا خطيب أن يكون شاعرا أو خطيبا بضرب من الحيل
والتمويه، والتأويل الأول أخلص وأرضى، وفي هذا التأويل الثاني ما يُغمَّض عليه
الجفن ويغضى .اهـ[5]
وقال :
معنى هذا عند المحققين بقاء معجزته ما بقيت الدنيا، وسائر معجزات الأنبياء ذهبت
للحين ولم يشاهدها إلا الحاضر لها، ومعجزة القرآن يقف عليها قرن بعد قرن عيانا
لا خبرا إلى يوم القيامة .اهـ[6]
وقال :
ثم بقيت هذه المعجزة الجامعة لهذه الوجوه إلى الفصول الأخر التي ذكرناها في معجزات
القرآن ثابتة إلى يوم القيامة بيّنة الحجة لكل أمة تأتي لا يخفى وجوه ذلك على من
نظر فيه وتأمل وجوه إعجازه إلى ما أخبر به من الغيوب على هذه السبيل فلا يمر عصر
ولا زمن إلا ويظهر فيه صدقه بظهور مخبره على ما أخبر فيتجدد الإيمان ويتظاهر
البرهان وليس الخبر كالعيان، وللمشاهدة زيادة في اليقين والنفس أشد طمأنينة إلى
عين اليقين منها إلى علم اليقين وإن كان كل عندها حقا، وسائر معجزات الرسل انقرضت بانقراضهم
وعدمت بعدم ذواتها ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تبيد ولا تنقطع وآياته تتجدد ولا
تضمحل ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله ... "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر
وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"
هذا
معني الحديث عند بعضهم، وهو الظاهر والصحيح إن شاء الله .اهـ[7]
قال
القرطبي – وسبق ذكره في أول الكلام عن
الحديث – : ولما كانت هذه المعجزة قاطعة الظهور، مستمرة مدى الدهور، اشترك
في معرفتها المتقدمون والمتأخرون، واستوى في معرفة صدق محمد r
السابقون واللاحقون، فدخل العقلاء في دينه دخولا
متتابعا، وحقق الله تعالى له رجاءه، فكان أكثر الأنبياء تابعا .اهـ[8]
قال
ابن كثير :
وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من الأنبياء،
وعلى كل كتاب أنزله، وذلك أن معنى الحديث : ما من نبي إلا أعطى -أي: من المعجزات-
ما آمن عليه البشر، أي: ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به، واتبعه من اتبعه
من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم تبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما
شاهدوه في زمانه.
وأما
الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم،
فإنما كان معظم ما آتاه الله وحيا منه إليه منقولا إلى الناس بالتواتر، ففي كل حين
هو كما أنزل، فلهذا قال: "فأرجو أن أكون أكثرهم
تابعا". وكذلك وقع؛ فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم
رسالته، ودوامها الى قيام الساعة واستمرار معجزته .اهـ[9]
خاتمة الباب :
قال
القرطبي :
وهذه الخصائص والفضائل التي حدث بها صلى الله عليه وسلم عن نفسه، إنما كان ذلك منه لأنها من
جملة ما أمر بتبليغه، لما يترتب عليها من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه،
وليرغب في الدخول في دينه، وليتمسك به من دخل فيه، وليعلم قدر نعمة الله عليه في
أن جعله من أمة من هذا حاله، ولتعظم محبته في قلوب متبعيه، فتكثر أعمالهم، وتطيب
أحوالهم، فيحشرون في زمرته، وينالون الحظ الأكبر من كرامته. وعلى الجملة فيحصل
بذلك شرف الدنيا، وشرف الآخرة، لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع على كل حال .اهـ[10]
[1] المعلم بفوائد
مسلم 1 / 323
[2] شرح مسلم 2 / 188
[3] الإفصاح عن
معاني الصحاح 6 / 271 – 272
[4] كشف المشكل من
حديث الصحيحين 3 / 412
[5] الشفا بتعريف
حقوق المصطفى ص : 467 – 468
[6] الشفا بتعريف
حقوق المصطفى ص : 220
[7] الشفا بتعريف حقوق المصطفى ص : 467 وفي شرح مسلم
– إكمال المعلم – بعد ذكر توجيه المازري : وفيه وجه آخر وهو : أن سائر معجزات
الأنبياء انقرضت بانقراضهم، ولم يشاهدها إلا ما كان حاضراً لها، ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم
من القرآن وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته بَيِّنة لكل من يأتي إلى يوم
القيامة إلى ما انطوى عليه من الإخبار عن الغيوب، فلا يَمر عَصْرٌ إلا ويظهر فيه
معجزة مما أخبر أنها تكون، تدل على صدقه وصحة نبوته وتجدّد الإيمان في قلوب أمته .اهـ 1 / 467
النبوات وفضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 27
[8] المفهم 6 / 50
[9] فضائل القرآن ص : 42
[10] المفهم 6 / 49
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق